15- وحينما تجلت آيات القرآن من رسولنا - محمد - على المشركين ، قال له الكافرون الذين لا يخافون عذاب الله ولا يرجون ثوابه : آتنا كتاباً غير هذا القرآن ، أو بَدِّل ما فيه مما لا يعجبنا . قل لهم - أيها الرسول : لا يمكنني ولا يجوز أن أغير أو أبدل فيه من عندي . ما أنا إلا متبع ومبلغ ما يوحى إلىَّ من ربى ، إنى أخاف إن خالفت وحى ربى عذاب يوم عظيم خطره ، شديد هوله .
قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } ، قال قتادة : يعني مشركي مكة . وقال مقاتل : هم خمسة نفر : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هاشم . { قال الذين لا يرجون لقاءنا } ، هم السابق ذكرهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت تريد أن نؤمن بك { ائت بقرآن غير هذا } ، ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة ، وليس فيه عيبها ، وإن لم ينزلها الله فقل أنت من عند نفسك ، { أو بدله } ، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، أو مكان حرام حلالا ، أو مكان حلال حراما ، { قل } لهم يا محمد ، { ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } ، من قبل نفسي { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } ، أي : ما أتبع إلا ما يوحى إلي فيما آمركم به وأنهاكم عنه . { { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }
ثم حكى - سبحانه - بعض المقترحات الفاسدة التي اقترحها المشركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد عليها بما يبطلها فقال - تعالى - :
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . } .
قال الآلوسى ما ملخصه : " عن مقاتل قال : إن الآية { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . } نزلت في جماعة من قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كنت تريد أن نؤمن لك ، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى وليس فيه ما يعيبها ، وإن لم ينزل الله - تعالى - عليك ذلك فقل أنت هذا من نفسك ، أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، ومكان حرام حلال ، ومكان حلال حراما .
والمعنى : وإذا تتلى على أولئك المشركين آياتنا الواضحة المنزلة عليك - يا محمد - قالوا على سبل العناد والحسد : ائت بقرآن آخر سوى هذا القرآن الذي تتلوه علينا ، أو بدله بأن تجعل مكان الآية التي فيها سب لآلهتنا ، آية أخرى فيها مدح لها .
وفي الآية الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إظهاراً للإِعراض عنهم ، حتى لكأنهم غير حاضرين ، وغير أهل لتوجيه الخطاب إليهم .
والمراد بالآيات : الآيات القرآنية الدالة على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وأضافها - سبحانه - إليه على سبيل التشريف والتعظيم ، وأسند التلاوة إلى الآيات بصيغة المبني للمفعول ، للإِشارة إلى أن هذه الآيات لوضوجها ، ولمعرفتهم التامة لتاليها ، صارت بغير حاجة إلى تعيين تاليها - صلى الله عليه وسلم - .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فماذا كان غرضهم - وهم أدهى الناس وأمكرهم - في هذا الاقتراح ؟ "
قلت : الكبد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل فللطمع ولاختبار الحال ، وأنه إذا وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجوا هم منه أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحا لافترائه على الله .
وقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هذا القول أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يزهق باطلهم .
وكلمة { تلقاء } مصدر من اللقاء كتبيان من البيان ، وكسر التاء فيهما سماعي ، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال .
والمعنى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ : لا يصح لي بحال من الأحوال ، أن أبدل هذا القرآن من عند نفسي ومن جهتها ؛ وإنما أنا أبلغكم ما أنزل الله على منه ، بدون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تبديل .
وقوله : { إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تعليل لمضمون ما قبله من امتناع الإِتيان بغيره أو تبديله ، والاقتصار على اتباع الوحي .
أي : إني أخاف إن عصيت ربي أية معصية ، عذاب يوم عظيم الهول ، وإذا كان شأني أن أخشاه - سبحانه - من أية معصية ولو كانت صغيرة ، فكيف لا أخشاه إن عصيت بتبديل كلامه استجابة لأهوائكم ؟
وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم .
لقد استخلفوا بعد القوم المجرمين . فماذا فعلوا ?
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله . أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون ) . .
( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ؛ ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . قل : أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون . وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون . ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ، فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) .
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف ، وهكذا كان سلوكهم مع الرسول ! ! !
( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) . .
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد ، إنما يصدر عن عبث وهزل ؛ وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله !
إن هذا القرآن دستور حياة شامل ، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ،
ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق ، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه ، أو يطلب تبديل بعض أجزائه .
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله ؛ كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة ، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآنا آخر ، أو يؤلف جزءا مكان جزء ? !
قال : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . .
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله ، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .
يخبر تعالى عن تعنّت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحقّ المعرضين عنه ، أنهم إذا قَرَأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحُجَجه الواضحة قالوا له : { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا } أي : رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ، أو بَدّله إلى وضع آخر ، قال الله لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } أي : ليس هذا إلي ، إنما أنا عبد مأمور ، ورسول مبلغ عن الله ، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذَآ أَوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيَ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قرىء على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات واضحات على الحقّ دالات . قالَ الّذِينَ لا يَرْجَوْنَ لِقاءَنَا يقول : قال الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالمعاد إلينا ولا يصدّقون بالبعث لك : ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْهُ بقول : أو غيره . قُلْ لهم يا محمد : ما يَكُونُ لي أنْ أُبَدّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من عندي .
والتبديل الذي سألوه فيما ذُكر ، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد وآية الوعد وعيدا والحرام حلالاً والحلال حراما ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه ، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ولا يتعقب قضاؤه ، وإنما هو رسول مبلغ ومأمور متبع .
وقوله : إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ يقول : قل لهم : ما أتبع في كلّ ما آمركم به أيها القوم وأنهاكم عنه إلا ما ينزله إليّ ربي ويأمرني به . إنّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي عَذَابَ يَوْمِ عَظِيم يقول إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدّلت وحيه فعصيته بذلك ، عذابَ يومٍ عظيمٍ هَوْلُهُ ، وذلك يَوْمَ تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَة عَمّا أرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَملْ حَمْلَها وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى ومَا هُمْ بِسُكارَى .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } يعني المشركين . { ائت بقرآن غير هذا } بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت ، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا . { أو بدّله } بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه . { قل ما يكون لي } ما يصح لي . { أن أبدّله من تلقاء نفسي } من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا ، وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه الإتيان بقرآن آخر . { إن اتّبع إلا ما يوحى اليّ } تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيل التدبيل في الجواب وسماه عصيانا فقال : { إني أخاف إن عصيت ربي } أي بالتبديل . { عذاب يوم عظيم } وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح .
قوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } الآية ، هذه الآية نزلت في قريش لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا وأحل ما حرمته وحرم ما حللته ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة ، فذم الله هذه الصنعة وذكرهم بأنهم يقولون هذا للآيات البيّنات ، ووصفهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، ثم أمر الله نبيه عليه السلام أن يرد عليهم بالحق الواضح وأن يستسلم ويتبع حكم الله تعالى ويعلم بخوفه ربه ، و «اليوم العظيم » يوم القيامة .