اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (15)

قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } الآية .

روي عن ابن عبَّاس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عليه الصلاة والسلام - وبالقرآن : الوليدُ بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ ، كما قال : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ]{[18342]} .

وقال مقاتل : هم خمسة : عبد الله بن أميَّة المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هشام ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك ، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ ، والعُزَّى ، ومناة ، وليسَ فيه عيبها ، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله ، فقُلْ أنت من عند نفسك ، أو بدله ، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة ، ومكان حرامٍ حلالاً ، وحلال حراماً{[18343]} .

فإن قيل : إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما ، فقال :

" ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ " ، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً .

فالجواب : أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتياناً بقرآن آخر ، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن ، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ ، كان هذا تبديلاً ، أو تقول : الإتيان بقُرآن غير هذا ، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب ، والتبديل : هو أن يُغيِّر هذا الكتاب ، مع بقاء هذا الكتاب .

وقوله : إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين :

قلنا : إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين ، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ؛ لأنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - بيَّن ، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه ؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى - ، ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر على مثله سائر العرب ؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم ، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله .

واعلم : أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً ، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك ، علمُوا كذبه في قوله : إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله ، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر ؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم ، والطَّعن في طرائقهم ، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك ، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله ، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن ، وتبديله بقرآن آخر .

قوله : " تِلْقاءِ " مصدرٌ على تِفْعَال ، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء ، إلاَّ هذا والتِّبيان ، وقرئ شاذّاً بفتح التَّاء ، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار ، كالتَّطْواف ، والتَّجوال ، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة .

قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } لمَّا أمرهُ أن يقول : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } ، أمرهُ بأن يقُول : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } فيما آمركم به ، وأنهاكم عنه ، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد .

وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - ، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ . ثم قال : { إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } قالت المعتزلة : هذا مشروطٌ بعدم التوبة .


[18342]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/45) عن ابن عباس.
[18343]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/347).