قوله تعالى : { إنك لا تسمع الموتى } يعني الكفار ، { ولا تسمع الصم الدعاء } قرأ ابن كثير :لا يسمع بالياء وفتحها وفتح الميم الصم رفع ، وكذلك في سورة الروم ، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم الصم نصب . { إذا ولوا مدبرين } معرضين . فإن قيل ما معنى قوله : { ولوا مدبرين } وإذا كانوا صماً لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا ؟ . قيل : ذكره على سبيل التأكيد والمبالغة . وقيل : الأصم إذا كان حاضراً فقد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة ، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم . قال قتادة : الأصم إذا ولى مدبراً ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان . ومعنى الآية : أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه ، والأصم الذي لا يسمع .
وقوله - تعالى - : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ . . } تعليل آخر لوجول التوكل على الله - تعالى - .
وقد شبه - سحبانه - أولئك المشركين ، بالأموات الذين فقدوا الحياة ، وبالصم الذين فقدوا السمع ، وبالعمى الذين فقدوا البصر ، وذلك لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس ، فصاروا كالفاقدين لها .
أى : دم - أيها الرسو الكريم - على توكلك على الله - تعالى - وحده ، وإنك لا تستطيع أن تسمع هؤلاء المشركين . ما يردهم عن شركهم ، لأنهم كالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل ، ولأنهم كالصم الذين فقدوا نعمة السمع .
وقوله : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } لتتميم التشبيه . وتأكيد نفى السماع . أى : إذا أعرضوا عن الحق إعراضا تاما ، وأدبروا عن الاستماع إليك .
قال الجمل : فإن قلت : ما معنى قوله { مُدْبِرِينَ } والأصم لا يسمع سواء أقبل أو أدبر ؟
قلت : هو تأكيد ومبالغة للأصم . وقيل : إن الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع رفع الصوت ، أو يفهم بالإشارة ، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم .
ومعنى الآية : إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت ، الذى لا سبيل إلى إسماعه ، وكالأصم الذى با يسمع ولا يفهم .
ويمضي في تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد وإصرارهم على الكفر بعد الجهد الشاق في النصح والبيان ، وبعد مخاطبتهم بهذا القرآن . . يمضي في تسليته والتسرية عنه من هذا كله ؛ فهو لم يقصر في دعوته . ولكنه إنما يسمع أحياء القلوب الذين تعي آذانهم فتتحرك قلوبهم ، فيقبلون على الناصح الأمين . فأما الذين ماتت قلوبهم ، وعميت أبصارهم عن دلائل الهدى والإيمان ، فما له فيهم حيلة ، وليس له إلى قلوبهم سبيل ؛ ولاضير عليه في ضلالهم وشرودهم الطويل :
( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . .
والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة . حالة جمود القلب ، وخمود الروح ، وبلادة الحس ، وهمود الشعور . فيخرجهم مرة في صورة الموتى ، والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو ، وهم لا يسمعون الدعاء ، لأن الموتى لا يشعرون ! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي ، لأنهم لا يسمعون !
أي : لا تسمعهم شيئًا ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، وفي آذانهم وَقْر الكفر ؛ ولهذا قال : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [ أي ]{[22152]} : إنما يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير ، السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة الخاضع لله ، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل ، عليهم السلام .
وقوله : إنّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى يقول : إنك يا محمد لا تقدر أن تُفهِم الحقّ من طبع الله على قلبه فأماته ، لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه ولاَ تُسْمِعَ الصّمّ الدّعاءَ يقول : ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصمّ الله عن سماعه سمعه إذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ يقول : إذا هم أدبروا معرضين عنه ، لا يسمعون له لغلبة دين الكفر على قلوبهم ، ولا يُصغون للحقّ ، ولا يتدبرونه ، ولا ينصتون لقائله ، ولكنهم يعرضون عنه ، وينكرون القول به ، والاستماع له .
ثم سلاه عنهم وشبههم ب { الموتى } من حيث الفائدة في القول لهؤلاء وهؤلاء معدومة فشبههم مرة ب { الموتى } ومرة ب { الصم } ، قال العلماء : الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله بكفره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم »{[1]} فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد عليه السلام في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله ، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم .
وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات قالوا : فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله غير معارض للآية لأن السلام على القبور إنما هو عبادة وعند الله الثواب عليها وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم ، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور فإن سمع فليس الروح بميت وإنما المراد بقوله { إنك لا تسمع الموتى } الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها ، وفيها تقول خرفت العادة لمحمد عليه السلام في أهل القليب وذلك كنحو قوله صلى الله عليه وسلم في الموتى «إذا دخل عليهم الملكان إنهم يسمعون خفق النعال »{[1]} ، وقرأ ابن كثير «ولا يسمع » بالياء من تحت «الصمُّ » رفعاً ومثله في الروم{[2]} ، وقرأ الباقون «تُسمع » بالتاء «الصمَّ » نصباً .