روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ} (80)

وقوله سبحانه : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } الخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه ، وقد علل أولاً بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى ، وثانياً بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلى الله عليه وسلم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق ، ثم علل ثالثاً بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى ، فإن كونهم كالموتى . والصم . والعمى موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً ، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى ، وهو المعنى بالتوكل عليه جل شأنه ، وجوز أن يكون قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ } الخ استئنافاً بيانياً وقع جواباً لسؤال نشأ مما قبله ، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل : ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } الخ .

وتعقب بأنه يأباه السياق ، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع ، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات ، وقيل : لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة ، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الأعراف : 971 ] وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمى مزيد مزية وكأنه لهذا في «البحر » : أي موتى القلوب ، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم .

وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع ، وما ذكر أولاً من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر ، ووجهه أن على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل : كيف تسمعهم الإرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضاً لأنهم صم ، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه ، ثم إنا لو أسمعناهم أيضاً فهم عمى لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون ، وهذا خاتمة أمرهم ، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف . وجوز أن يكون التشبهي لطوائف على مراتبهم في الضلال ، فمنهم من هو كالميت . ومن هو كالأصم . ومن هو كالأعمى ، وهو وإن كان وجهاً خفيف المؤنة إلا أنه خلاف الظاهر أيضاً .

{ وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } أي الدعوة إلى أمر من الأمور ، وتقييد النفي بقوله تعالى : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } لتتميم التشبيه وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم ، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريباً منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه ، ومثله في التتميم قول امرئ القيس :

حملت ردينيا كأن سنانه *** سنا لهب لم يتصل بدخان

وقرأ ابن كثير لا يسمع الصم الدعاء بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الصم .