قوله تعالى : { والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم } ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ، { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } أي : علم الوجود ، يريد : حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره ، { ونبلو أخباركم } أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ، ولا يصبر على الجهاد . وقرأ أبو بكر عن عاصم : وليبلونكم حتى يعلم ، ويبلو بالياء فيهن ، لقوله تعالى : { والله يعلم أعمالكم } وقرأ الآخرون بالنون فيهن ، لقوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم } وقرأ يعقوب : ونبلو ساكنة الواو ، رداً على قوله : { ولنبلونكم } وقرأ الآخرون بالفتح رداً على قوله : { حتى نعلم } .
ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فى خلقه فقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } .
أى : ولنعاملنكم - أيها الناس - معاملة المختبر لكم بالتكاليف الشرعية المتنوعة ، حتى نبين ونظهر لكم المجاهدين منكم من غيرهم ، والصابرين منكم وغير الصابرين { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أى : ونظهر أخباركم حتى يتميز الحسن منها من القبيح .
فالمراد بقوله : { حتى نَعْلَمَ المجاهدين . . } إظهار هذا العلم للناس ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، وصحيح العقيدة من سقيمها .
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد هددت المنافقين تهديدا شديدا ، ووبختهم على مسالكهم الذميمة ، وفضحتهم على رءوس الأشهاد ، وحذرت المؤمنين من شرورهم .
والله يعلم حقائق النفوس ومعادنها ، ويطلع على خفاياها وخباياها ، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلا . فما هذا الابتلاء ? ولمن يكون العلم من ورائه بما يتكشف عنه ?
إن الله - جلت حكمته - يأخذ البشر بما هو في طوقهم ، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم . وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه . فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقنوها ، ثم ينتفعوا بها .
والابتلاء بالسراء والضراء ، وبالنعماء والبأساء ، وبالسعة والضيق ، وبالفرج والكرب . . كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس ، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها . .
أما المراد بعلم الله لما تتكشف عنه النفوس بعد الابتلاء فهو تعلق علمه بها في حالتها الظاهرة التي يراها الناس عليها .
ورؤية الناس لها في صورتها التي تدركها مداركهم هو الذي يؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم ، ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم . وهكذا تتم حكمة الله في الابتلاء .
ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه . ويتطلع إلى عافيته ورحمته . فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له ، وهو مدرك لما وراءه من حكمة ؛ واستسلم لمشيئة الله واثقا من حكمته ، متطلعا الى رحمته وعافيته بعد الابتلاء .
وقد روي عن الفضيل العابد الصوفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا . فإنك إن بلوتنا فضحتنا ، وهتكت أستارنا وعذبتنا . .
وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي : ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ، { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } . وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب ، فالمراد : حتى نعلم وقوعه ؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا : إلا لنعلم ، أي : لنرى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَشَآقّواْ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَىَ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَنَبْلُوَنّكُمْ أيها المؤمنون بالقتل ، وجهاد أعداء الله حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم ، وأهل الصبر على قتال أعدائه ، فيظهر ذلك لهم ، ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشكّ والحَيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخباركم ، فنعرف الصادق منكم من الكاذب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : حتى نَعْلَمَ المُجاهِدينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ ، وقوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الخَوْف والجُوعِ ونحو هذا قال : أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر ، وبشّرهم فقال : وَبَشّر الصّابِرِينَ ، ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه ، وصفوته لتطيب أنفسهم ، فقال : مَسّتْهُمُ البأْساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا ، فالبأساء : الفقر ، والضرّاء : السقم ، وزُلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ قال : نختبركم ، البلوى : الاختبار . وقرأ الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . . . الآية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حتى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخْبارَكُمْ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بالنون نبلو ونعلم ، ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ جلاله عن نفسه ، سوى عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وإن كان للأخرى وجه صحيح .
{ ولنبلونكم } بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة . { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } على مشاقه . { ونبلو أخباركم } ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها ، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها . وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها ، وعن يعقوب " ونبلو " بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو .
وقرأ جمهور القراء : «ولنبلونكم » بالنون ، وكذلك «نعلم » وكذلك «نبلوا » ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «وليبلونكم الله » ، وكذلك «يعلم » ويبلو « .
وروى رويس عن يعقوب : «ويبلو » بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم . وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلنا ، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا .
وقوله تعالى : { حتى نعلم المجاهدين } أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم ، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي ، وإنما المعنى ما ذكرناه .