قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } ، قال عمر وعلي : هي فاتحة الكتاب . وهو قوم قتادة وعطاء والحسن وسعيد بن جبير .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " . وعن ابن مسعود قال في السبع المثاني : هي فاتحة الكتاب ، والقرآن العظيم : هو سائر القرآن . واختلفوا في أن الفاتحة لم سميت مثاني ؟ قال ابن عباس والحسن وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة . وقيل : لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين ، نصفها ثناء ونصفها دعاء كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " . قال الحسين بن الفضل : سميت مثاني لأنها نزلت مرتين : مرة بمكة ، ومرة بالمدينة ، كل مرة معها سبعون ألف ملك . وقال مجاهد : سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم . وقال أبو زيد البلخي : سميت مثاني لأنها تثني أهل الشر عن الفسق ، مكن قول العرب : ثنيت عناني . وقيل : لأن أولها ثناء . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إن السبع المثاني هي السبع الطوال ، أولها سورة البقرة ، وآخرها الأنفال مع التوبة . وقال بعضهم : سورة يونس بدل الأنفال .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو محمد الحسن ابن أحمد المخلدي أنبأنا ا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد وعبد الله بن محمد بن مسلم قالا : أنبأنا هلال بن العلاء ، حدثنا حجاج بن محمد عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن كثير ، عن شداد ابن عبد الله ، عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضلني ربي بالمفصل " . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أوتي النبي صلى الله عليه وسلم السبع الطوال ، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفع ثنتان وبقي أربع . قال ابن عباس : وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها . وقال طاووس : القرآن كله مثاني قال الله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر-23 ] . وسمي القرآن مثاني لأن الأنبياء والقصص ثنيت فيه . وعلى هذا القول : المراد بالسبع : سبع أسباع القرآن ، فيكون تقديره على هذا : وهي القرآن العظيم . وقيل : الواو مقحمة ، مجازه : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم .
ثم أتبع - سبحانه - هذه التسلية والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم ، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها ، ليزيده اطمئنانًا وثقة بوعد الله - تعالى - فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } .
والمراد بالسبع المثانى : صورة الفاتحة . وسميت بذلك ، لأنها سبع آيات ، ولأنها تثنى أى تكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة .
قال صاحب الكشاف : " والمثانى من التثنية وهى التكرير للشئ ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة . أو من الثناء ، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله - تعالى - . . . " .
والمعنى : ولقد أعطيناك - أيها الرسول الكريم - سورة الفاتحة التي هي سبع آيات ، والتى تعاد قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وأعطيناك - أيضًا - القرآن العظيم الذي يهدى للطريق التي هي أقوم .
وأوثر فعل { آتيناك } بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك ، أو أنزلنا عليك ؛ لأن الإِعطاء أظهر في الإِكرام والإِنعام .
وقوله { والقرآن العظيم } معطوف على { سبعًا } من باب عطف الكل على الجزء ، اعتناء بهذا الجزء .
ووصف - سبحانه - القرآن بأنه عظيم ، تنويهًا بشأنه ، وإعلاء لقدره .
ومما يدل على أن المراد بالسبع المثانى سورة الفاتحة ما أخرجه البخارى بسنده عن أبى سعيد بن المعلى قال : " مر بى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا أصلى ، فدعانى فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتينى ؟ فقلت : كنت أصلى .
فقال : ألم يقل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } .
ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟ ثم ذهب النبى صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرته فقال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته " .
وروى البخارى - أيضًا - عن أبى هريرة قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن هى : السبع المثانى والقرآن العظيم " .
هذا ، وهناك أقوال أخرى في المقصود بالسبع المثانى ، ذكرها بعض المفسرين فقال : اختلف العلماء في السبع المثانى : فقيل الفاتحة . قاله على بن أبى طالب ، وأبو هريرة ، والربيع بن أنس ، وأبو العالية ، والحسن وغيرهم . وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى . . .
وقال ابن عباس : هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال والتوبة معًا . . .
وأنكر قوم هذا وقالوا : أنزلت هذه الآية بمكة ، ولم ينزل من السبع الطوال شيء إذ ذاك .
وقيل : المثانى القرآن كله ، قال الله - تعالى - { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } هذا قول الضحاك وطاووس ، وقاله ابن عباس . وقيل له : مثانى ، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه . . .
وقيل : المراد بالسبع المثانى أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإِنذار . .
ثم قال : والصحيح الأول لأنه نص . وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثانى ما يمنع من تسمية غيرها بذلك ، إلا أنه إذا ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل ، كان الوقوف عنده .
والذى نراه ، أن المقصود بالسبع المثانى هنا : سورة الفاتحة ، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى ثبت النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم في شيء فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى الله عليه وسلم
يتصل بهذا الحق الكبير تلك الرسالة التي جاء بها الرسول . وذلك القرآن الذي أوتيه :
( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) .
والمثاني الأرجح أن المقصود بها آيات سورة الفاتحة السبع - كما ورد في الأثر - فهي تثنى وتكرر في الصلاة ، أو يثنى فيها على الله .
والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها ، يشي بالاتصال بين هذا القرآن والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة . فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق ، وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب إليها ، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق ويستجيش القلوب لإدراكها ، ويكشف أسباب الهدى والضلال ، ومصير الحق والباطل ، والخير والشر والصلاح والطلاح . فهو من مادة ذلك الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه . وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض . ثابت ثبوت نواميس الوجود ، مرتبط بتلك النواميس . وليس أمرا عارضا ولا ذاهبا . إنما يبقى مؤثرا في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها ، مهما يكذب المكذبون ، ويستهزيء المستهزئون ، ويحاول المبطلون ، الذين يعتمدون على الباطل ، وهو عنصر طاريء زائل في هذا الوجود .
ومن ثم فإن من أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم ، المستمد من الحق الأكبر ، المتصل بالحق الأكبر . . لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض من أعراضها الزوائل . ولا يحفل مصير أهل الضلال ، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل . إنما يمضي في طريقه مع الحق الأصيل :
يقول تعالى لنبيه : كما آتيناك القرآن العظيم ، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها ، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه ، فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ، ومخالفتهم دينك . { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 215 ] أي : ألِن لهم جانبك{[16230]} كما قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ]
وقد اختلف في السبع المثاني : ما هي ؟
فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك وغير واحد : هي السبع الطُّوَل . يعنون : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، نص عليه ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
وقال سعيد : بيَّن{[16231]} فيهن الفرائض ، والحدود ، والقصص ، والأحكام .
وقال ابن عباس : بين{[16232]} الأمثال والخَبَر والعِبَر{[16233]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : { الْمَثَانِي } الْمُثَنَّى :{[16234]} البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال وبراءة{[16235]} سورة واحدة .
قال ابن عباس : ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعطي موسى منهن اثنتين . رواه هُشَيْم ، عن الحجاج ، عن الوليد بن العيزار{[16236]} عن سعيد بن جبير عنه .
[ و ]{[16237]} قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل ، وأوتي موسى ، عليه السلام ، ستًّا ، فلما ألقى الألواح ارتفع{[16238]} اثنتان وبقيت أربع .
وقال مجاهد : هي السبع الطُوَل . ويقال : هي القرآن العظيم .
وقال خَصِيف ، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى : { سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } قال : أعطيتك سبعة أجزاء : آمر ، وأنهى ، وأبشر{[16239]} وأنذر ، وأضرب الأمثال ، وأعدد النعم ، وأنبئك بنبأ{[16240]} القرآن . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
والقول الثاني : أنها الفاتحة ، وهي سبع آيات . رُوي ذلك عن عمر وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس . قال ابن عباس : والبسملة هي{[16241]} الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها . وبه قال إبراهيم النخعي ، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر ، وابن أبي مليكة ، وشَهْر بن حَوْشَب ، والحسن البصري ، ومجاهد .
وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب ، وأنهن يثنين{[16242]} في كل قراءة . وفي رواية : في كل ركعة مكتوبة أو تطوع .
واختاره ابن جرير ، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك ، وقد قدمناها في فضائل سورة " الفاتحة " في أول التفسير ، ولله الحمد .
وقد أورد البخاري ، رحمه الله ، هاهنا حديثين :
أحدهما : قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غُنْدر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى قال : مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : " ما{[16243]} منعك أن تأتيني{[16244]} ؟ " . فقلت : كنت أصلي . فقال : " ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟ " فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرته{[16245]} فقال : " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " {[16246]}
[ و ]{[16247]} الثاني : قال : حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن هي : السبع المثاني والقرآن العظيم " {[16248]}
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ، ولكن لا ينافي{[16249]} وصف غيرها من السبع الطُّوَل بذلك ، لما فيها من هذه الصفة ، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا ، كما قال تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] فهو مثاني من وجه ، ومتشابه من وجه ، وهو القرآن العظيم
أيضًا ، كما أنه ، عليه السلام{[16250]} لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأشار إلى مسجده ، والآية نزلت في مسجد قُباء ، فلا تنافي ، فإن{[16251]} ذكر الشيء لا ينفي{[16252]} ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة ، والله أعلم .