قوله تعالى : { أرسله معنا غدا } ، إلى الصحراء ، { يرتع ويلعب } ، قرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، بالنون فيهما وجزم العين في { نرتع } ، وقرأ يعقوب { نرتع } بالنون ، { ويلعب } بالياء ، وقرأ أهل الكوفة بالياء فيهما وجزم العين في { يرتع } يعني يوسف ، وقرأ الآخرون { نرتع } بالنون ، { ويلعب } بالياء ، والرتع هو الاتساع في الملاذ ، يقال : رتع فلان في ماله إذا أنفقه في شهواته ، يريد ونتنعم ونأكل ونشرب ونلهو وننشط . وقرأ أهل الحجاز : { يرتع } بكسر العين ، وهو يفتعل من الرعي . ثم ابن كثير قرأ بالنون فيهما أي : نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا . وقرأ أبو جعفر و نافع بالياء إخبارا عن يوسف ، أي : يرعى الماشية كما نرعى نحن .
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ . . . } .
والرتع والرتوع هو الاتساع في الملاذ والتنعم في العيش ، يقال : رتع الإِنسان في النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت ، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة ، كالتسابق عن طريق العدو ، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة .
أى : أرسله معنا غدا ليتسع في أكل الفواكه ونحوها وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجرى والتسابق معنا .
{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كل الحفظ من أن يصيبه مكروه ، أو يمسه سوء .
وقد أكدو هذه الجملة والتى قبلها وهى قوله { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } بألوان من المؤكدات ، لكى يستطيعوا الحصول على مقصودهم في اصطحاب يوسف معهم .
وهو أسلوب يبدوا فيه التحايل الشديد على أبيهم ، لإِقناعة بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : { يَرْتَعِ ويَلْعَبْ } ، بكسر العين من يرتع وبالياء في يرتع ويلعب ، على معنى : «يفتعل » ، من الرعي : ارتعيت ، فأنا أرتعي . كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى : أرسله معنا غدا يرتع الإبل ، ويلعب . { وَإنّا لَهُ لحَافِظُونَ } .
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، بالياء في الحرفين جميعا وتسكين العين ، من قولهم : رتع فلان في ماله : إذا لهى فيه ونعم وأنفقه في شهواته ، ومن ذلك قولهم في مثل من الأمثال : «القَيْدُ والرّتَعَة » ، ومنه قول القطامي :
أكُفْرا بَعْدَ رَدّ المَوْتِ عَنّي *** وبعدَ عَطائِكَ المِئَةَ الرّتاعَا
وقرأ بعض أهل البصرة : { نَرْتَعْ } ، بالنون ، { وَنَلْعَب } ، بالنون فيهما جميعا ، وسكون العين من { نرتع } .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : كان أبو عمرو يقرأ : { نَرْتَع وَنَلْعَبْ } ، بالنون ، قال : فقلت لأبي عمرو : كيف يقولون : " نلعب " ، وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء .
وأولى القراءة في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه في الحرفين كليهما بالياء وبجزم العين في : «يرتعْ » . لأن القوم إنما سألوا إباهم إرسال يوسف معهم ، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك عما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك ، لا بالخبر عن أنفسهم . وبذلك أيضا جاء تأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، يقول : يسع ، وينشط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يلهو ، وينشط ، ويسعى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلهو .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، بنحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يسعى ، ويلهو .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يتلهى ، ويلعب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يتلهى ، ويلعب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلعب .
قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } : يلهو .
قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن شيبان ، عن قتادة : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلعب .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا نعيم بن ضمضم العامري ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، في قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يسعى ، وينشط .
وكأن الذين يقرءون ذلك : { يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ } ، بكسر العين من يرتعِ ، يتأوّلونه على الوجه الذي :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يرعى غنمه ، وينظر ، ويعقل ، فيعرف ما يعرف الرجل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { نَرْتَعِ } : يحفظ بعضنا بعضا ، نتكالأ ، نتحارس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { نَرْتَعِ } ، قال : يحفظ بعضنا بعضا ، نتكالأ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن وَرْقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه .
فتأويل الكلام : أرسله معنا غدا نلهو ، ونلعب ، وننعم ، وننشط في الصحراء ، ونحن حافظوه من أن يناله شيء يكرهه ، أو يؤذيه .
جملة { أرسله } مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب عليه السّلام لمعرفة ما يريدون منه ليوسف عليه السّلام .
و { يرتَع } قرأه نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب بياء الغائب وكسر العَين . وقرأه ابن كثير بنون المتكلّم المشارك وكسر العين وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه .
فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلاً ذريعاً فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام .
وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين .
وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر بنون وسكون العين . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتَع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام . والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت . فمفاد المعنى على التأويلين واحد .
واللّعب : فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة ، نحو قول امرىء القيس :
يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة . وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأباً . فلا وجه لتساؤل صاحب « الكشاف » على استجازة يعقوب عليه السّلام لهم اللعب .
والذين قرأوا { نرتع } بنون المشاركة قرأوا { ونلعب } بالنون أيضاً .
وجملة { وإنّا له لحافظون } في موضع الحال مثل { وإنّا له لناصحون } [ سورة يوسف : 10 ] . والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلاً لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه .
وتقديم { له } في { له لناصحون } و { له لحافظون } يجوز أن يكون لأجل الرعاية للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر ، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي ؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره .
وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطىء أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء ، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له ، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد ، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلاّ على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضاً .