قوله تعالى : { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً } . كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار .
قوله تعالى : { يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } ، في الدنيا من المال والولد .
قوله تعالى : { وما كنتم تستكبرون } ، عن الإيمان . قال الكلبي : ينادون وهم على السور ، يا وليد بن المغيرة ، ويا أبا جهل بن هشام ، ويا فلان ، ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم ، مثل : سلمان ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وأشباههم .
ثم بين - سبحانه - ما يقوله أهل الأعراف لرءوس الكفر في هذا الموقف العصيب فقال : { ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } .
أى : ونادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل النار وكانوا أصحاب وجاهة وغنى في الدنيا ، فيقولون لهم على سبيل التوبيخ والتقريع ما أغنى عنكم جمعكم وكثرتكم واستكباركم في الأرض بغير الحق . فقد صرتم في الآخرة بسبب كفركم وعنادكم إلى هذا الوضع المهين .
وقد كرر - سبحانه - ذكرهم مع قرب العهد بهم ، فلم يقل " ونادوا " لزيادة التقرير ، وكون هذا النداء خاصاً في موضوع خاص فكان مستقلا .
وقوله : { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أى : بعلاماتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ كسواد الوجوه ، وظهور الذلة على وجوههم . أو يعرفونهم بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَىَ أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىَ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وَنادَى أصحَابُ الأعْرَافِ رِجالاً من أهل الأرض يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ سيما أهل النار ، قالُوا ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ يقول : وتكبركم الذي كنتم تتكبرون فيها . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فمرّ بهم يعني بأصحاب الأعراف ناس من الجبارين عرفوهم بسيماهم قال : يقول : قال أصحاب الأعراف : ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَنادَى أصحَابُ الأعْرَافِ رِجالاً قال : في النار ، يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وتكبركم ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز : وَنادَى أصحَابُ الأعْرَافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ قال : هذا حين دخل أهل الجنة الجنة ، أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ . . . الاَية . قلت لأبي مجلز : عن ابن عباس ؟ قال : لا بل عن غيره .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز : وَنادَى أصحَابُ الأعْرَافِ رِجالاً يَعْرفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قال : نادت الملائكة رجالاً في النار يعرفونهم بسيماهم : ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أهَؤُلاَءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ قال : هذا حين دخل أهل الجنة الجنة ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَنادَى أصحَابُ الأعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ فالرجال عظماء من أهل الدنيا قال : فبهذه الصفة عرف أهل الأعراف أهل الجنة من أهل النار . وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس أهل الخير ورئيس أهل الشرّ يوم القيامة . قال : وقال ابن زيد في قوله : ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ قال : على أهل طاعة الله .
التّعريف في قوله : { أصحاب الأعراف } للعهد بقرينة تقدّم ذكره في قوله : { وعلى الأعراف رجال } [ الأعراف : 46 ] وبقرينة قوله هنا { رجالاً يعرفونهم } إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرّجال يناديهم جميع من كان على الأعراف ، ولا أن يَعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف ، مع اختلاف العصور والأمم ، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرّجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله : { وعلى الأعراف رجال } [ الأعراف : 46 ] كأنّه قيل : ونادى أولئك الرّجالُ الذين على الأعراف رجالاً . والتّعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار ، إذ كان مقتضى الظّاهر أن يقال . ونادوا رجالاً ، إلاّ أنّه لما تعدّد في الآية السّابقة ما يصلح لعود الضّمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعاً للالتباس .
والنّداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أنّ أهل الأعراف لما تطلّعوا بأبصارهم إلى النّار عرفوا رجالاً ، أو قَبْلَ ذلك لمّا مُرّ عليهم بأهل النّار عرفوا رجالاً كانوا جبارين في الدّنيا . والسيما هنا يتعيّن أن يكون المراد بها المشخّصات الذاتية التي تتميّز بها الأشخاص ، وليست السيما التي يتميّز بها أهل النّار كلّهم كما هو في الآية السّابقة .
فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة ، فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنّة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم . وأنكروا أن يكون أولئك الضّعاف والعبيد من أهل الجنّة ، وذلك على سبيل الفرض ، أي لو فرضوا صدق وجود جنّة ، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنّة لأنّهم ما كانوا يؤمنون بالجنّة ، وقصدهم من هذا تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وإظهار ما يحسبونه خَطلا من أقواله ، وذلك مثل قولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [ سبأ : 7 ] فجعلوا تمزّق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر ، وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزّق . وكلّ ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتّخليط بين العاديات والعقليات . قال ابن الكلبي : « ينادي أهل الأعراف وهم على السور يَا وليدُ بنَ المغيرة يا أبَا جهل بنَ هشام يا فلان ويا فلان » فهؤلاء من الرّجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزّة والكبرياء .
ومعنى { جمعكم } يحتمل أن يكون جَمْع النّاس ، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزّون بها ، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول . أي ما جمعتموه من المال والثّروة كقوله تعالى : { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ] .
و ( مَا ) الأولى نافية ، ومعنى { ما أَغْنَى } ما أَجْزَى مصدره الغَناء بفتح الغين وبالمدّ .
والخبر مستعمل في الشّماتة والتّوقيف على الخطأ .
و ( ما ) الثّانية مصدريّة ، أي واستكباركم الذي مضى في الدّنيا ، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسّل بالفعل إلى كونه مضارِعا فيفيد أنّ الاستكبار كان دأبَهم لا يفترون عنه .