وقوله : { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } بيان للحكمة من إنزال المطر وإنبات الزرع . .
أى : أنبتنا ما أنبتنا من الجنات ومن النخل الباسقات . . ليكون ذلك رزقا نافعا للعباد . .
{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أى : وأحيننا بذلك الماء الذى أنزلناه بلدة كانت مجدبة ، وأرضا كانت خالية من النبات والزروع ، وتذكير { مَّيْتاً } لكون البلدة بمعنى المكان .
وقوله : { كَذَلِكَ الخروج } جملة مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث ، مثله كمثل هذا الإِحياء للأرض التى كانت جدباء ميتة ، بأن أنبتت من كل زوج بهيج بعد أن كانت خالية من ذلك .
فوجه الشبه بين إحياء الأرض بالنبات بعد جدبها ، وبين إحياء الإِنسان بالبعث بعد موته ، استواء الجميع فى أنه جاء بعد عدم .
قال ابن كثير : قوله : { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً . . . } وهى الأرض التى كانت هامدة ، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . وذلك بعد أن كانت لانبات فيها فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيى الله الموتى ، وهذا المشاد من عظيم قدرته بالحس ، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث . .
كقوله - تعالى - : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلى أن البعث حق ، وأنه آت لا ريب فيه .
ويلمس القلوب وهو يمتن عليها بالماء والجنات والحب والنخل والطلع : ( رزقا للعباد ) . . رزقا يسوق الله سببه ، ويتولى نبته ، ويطلع ثمره ، للعباد ، وهو المولى ، وهم لا يقدرون ولا يشكرون !
وهنا ينتهي بموكب الكون كله إلى الهدف الأخير :
( وأحيينا به بلدة ميتا . كذلك الخروج ) . .
فهي عملية دائمة التكرار فيما حولهم ، مألوفة لهم ؛ ولكنهم لا ينتبهون إليها ولا يلحظونها قبل الاعتراض والتعجيب . . كذلك الخروج . . على هذه الوتيرة ، وبهذه السهولة . . الآن يقولها وقد حشد لها من الإيقاعات الكونية على القلب البشري ذلك الحشد الطويل الجميل المؤثر الموحي لكل قلب منيب . . وكذلك يعالج القلوب خالق القلوب . .
وقوله : رِزْقا للْعِبادِ يقول : أنبتنا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء هذه الجنات ، والحبّ والنخل قوتا للعباد ، بعضها غذاء ، وبعضها فاكهة ومتاعا .
وقوله : وأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يقول تعالى ذكره وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة ميتا قد أجدبت وقحطت ، فلا زرع فيها ولا نبت .
وقوله : كَذَلكَ الخُرُوجُ يقول تعالى ذكره : كما أنبتنا بهذا الماء هذه الأرض الميتة ، فأحييناها به ، فأخرجنا نباتها وزرعها ، كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء من قبوركم من بعد بلائكم فيها بما ينزل عليها من الماء .
و : { رزقاً } نصب على المصدر والضمير في : { به } عائد على المطر . ووصف البلدة ب «ميت » على تقدير القطر والبلد .
وقرأ الناس «ميْتاً » مخففاً ، وقرأ أبو جعفر وخالد «ميّتاً » بالتثقيل .
ثم بين تعالى موضع الشبه فقال : { كذلك الخروج } ، هذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث . و { الخروج } يريد به من القبور .
مفعول لأجله لقوله : { فأنبتنا به جنات } [ ق : 9 ] إلى آخره ، فهو مصدر ، أي لنرزق العباد ، أي نقوتهم . والقول في التعليل به كالقول في التعليل بقوله : { تبصرة وذكرى } [ ق : 8 ] .
والعباد : الناس وهو جمع عبد بمعنى عبد الله ، فأمّا العبد المملوك فجمعه العبيد . وهذا استدلال وامتنان .
{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً ميتا } .
عطف على { رزقا للعباد } عطف الفعل على الاسم المشتق من الفعل وهو رزقه المشتق لأنه في معنى : رزقنا العباد وأحيينا به بلدة ميتا ، أي لرعي الأنعام والوحش فهو استدلال وفيه امتنان . والبلدة : القطعة من الأرض .
والمَيْت بالتخفيف : مرادف المَيِّت بالتشديد قال تعالى : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكون } [ يس : 33 ] .
وتذكير الميت وهو وصف للبلدة ، وهي مؤنث على تأويله بالبلد لأنه مرادفه ، وبالمكان لأنه جنسه ، شبه الجدْب بالموت في انعدام ظهور الآثار ، ولذلك سمي ضده وهو إنبات الأرض حياة . ويقال لخِدمة الأرض اليابسة وسقِيها : إحياءُ موات .
بعد ظهور الدلائل بصنع الله على إمكان البعث لأن خلق تلك المخلوقات من عدم يدل على أن إعادة بعض الموجودات الضعيفة أمكنُ وأهَونُ ، جيء بما يفيد تقريب البعث بقوله : { كذلك الخروج } .
فهذه الجملة فذلكة للاستدلال على إمكان البعث الذي تضمنته الجمل السابقة فوجب انفصال هذه الجملة فتكون استئنافاً أو اعتراضاً في آخر الكلام على رأي من يجيزه وهو الأصح .
والإشارة { بذلك } إلى ما ذكر آنفاً من إحياء الأرض بعد موتها ، أي كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الناس بعد موتهم وبلاِهم ، مع إفادتها تعظيم شأن المشار إليه ، أي مثل البعث العظيم الإبداع .
والتعريف في { الخروج } للعهد ، أي خروج الناس من الأرض كما قال تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سِراعا } [ المعارج : 43 ] . ف { الخروج } صار كالعلَم بالغلبة على البعث ، وسيأتي قوله تعالى : { ذلك يوم الخروج } [ ق : 42 ] . وتقديم المجرور على المبتدإ للاهتمام بالخبر لما في الخبر من دفع الاستحالة وإظهار التقريب ، وفيه تشويق لتلقي المسند إليه .