مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رِّزۡقٗا لِّلۡعِبَادِۖ وَأَحۡيَيۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ ٱلۡخُرُوجُ} (11)

ثم قال تعالى : { رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } .

وفيه وجهان أحدهما نصب على المصدر لأن الإنبات رزق فكأنه تعالى قال : أنبتناها إنباتا للعباد ، والثاني نصب على كونه مفعولا له كأنه قال : أنبتناها لرزق العباد ، وهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : قال في خلق السماء والأرض { تبصرة وذكرى } وفي الثمار قال : { رزقا } والثمار أيضا فيها تبصرة ، وفي السماء والأرض أيضا منفعة غير التبصرة والتذكرة ، فما الحكمة في اختيار الأمرين ؟ نقول فيه وجوه ( أحدها ) أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة ( والثاني ) البقاء بعد الإعادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم ، وأنكروا ذلك ، فأما الأول فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء ، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر ، قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى ، فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق ، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله { تبصرة وذكرى } حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ( ثانيها ) أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمرا عائدا إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم ، حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ، ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى ، لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله ، وفيها غير ذلك من المنافع ، والثمار وإن لم تكن ما كان العيش ، كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ( ثالثها ) قوله { رزقا } إشارة إلى كونه منعما لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة للتكذيب بالمنعم وهو أقبح ما يكون .

المسألة الثانية : قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } فقيد العبد بكونه منيبا وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال : { رزقا للعباد } مطلقا لأن الرزق حصل لكل أحد ، غير أن المنيب يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام ، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد .

المسألة الثالثة : ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضا وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أمورا ثلاثة ، وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة ، فهل هي كذلك في هذه الآية ؟ نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة ، وهي التي يبقى أصلها سنين ، ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل ، والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجا عنها أصلا كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة : ابتداء وهو المد ، ووسط وهو النبات بالجبال الراسية ، وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف .

ثم قال تعالى : { وأحيينا به بلدة ميتا } عطفا على { فأنبتنا به } وفيه بحثان :

الأول : إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله { وأحيينا به } إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء ، ويدل عليه قوله تعالى : { كذلك الخروج } فإن قيل كيف يصح قولك استدلالا ، وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك { وأحيينا به بلدة ميتا } .

وقال : { كذلك الخروج } فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء ، فينبغي أن يبين أولا أنه يحيي الموتى ، ثم يبين أنه يبقيهم ، نقول لما كان الاستدلال بالسموات والأرض على الإعادة كافيا بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء ، ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء ، وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال : { فأنبتنا به جنات } ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال : { وأحيينا به } وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله { وأحيينا به } ينبغي أن يكون مغايرا لقوله { فأنبتنا به } بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء ، وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف ، تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة ، ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات ، وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان ، فكذلك هذا الإحياء ، فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر ، ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر ، نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر .

الثاني : في قوله { بلدة ميتا } نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها ، لأن الميت تخفيف للميت ، والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله { إن رحمة الله قريب من المحسنين } فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول ؟ قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز بين المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظرا إلى المعنى ونظرا إلى اللفظ ، فأما المعنى فظاهر ، وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له ، إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلا جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير ، ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة الأدنى ، والتحقيق فيه أن فعيلا وضع لمعنى لفظي ، والمفعول وضع لمعنى حقيقي فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني ، واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول ، والمفعول كالموضوع للمعنى ، ولما كان تغير اللفظ تابعا لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى ، ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر ، فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله { وءاية لهم الأرض الميتة أحييناها } حيث أثبت التاء هناك ؟ نقول الأرض أراد بها الوصف فقال : { الأرض الميتة } لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة ، لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة ، وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء ، وتحقيق هذا قوله { بلدة طيبة } حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل ، ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز .

قوله تعالى : { كذلك الخروج } أي كالإحياء { الخروج } فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره { وأحيينا به بلدة ميتا } فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات ، وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله { ذلك رجع بعيد } لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول ، كذلك الإخراج ، ولما قال : { كذلك الخروج } فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال : { كذلك الخروج } نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر ، وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت { الخروج } وفيهما مبالغة تنبيها على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان ، ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج ، والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزما ، وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازا والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم ، إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزما فبالغوا وأنكروا الأمر جميعا ، لأن نفي السبب نفي المسبب ، فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعا بنفي الإخراج .