اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رِّزۡقٗا لِّلۡعِبَادِۖ وَأَحۡيَيۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ ٱلۡخُرُوجُ} (11)

قوله : «رزْقاً » يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق ، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا ؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال : أنبتناها إنباتاً للعباد{[52324]} ويجوز أن تكون مفعولاً له{[52325]} للعباد ، إمّا صفة ، وإما متعلق بالمصدر ، وإِما مفعولاً للمصدر ، واللام زائدة ، أي رِزْقاً العبادَ .

فصل

قال ابن الخطيب : ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض : «تَبْصِرَةً وذِكْرَى » وفي الثمار قال : «رِزْقاً » والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة ؟

نقول : فيه وجوه :

أحدها : أن الاستدلال وقع لوجود أمرين : أحدهما الإعادة ، والثاني : البقاء بعد الإعادة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم {[52326]}- كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم ، والعقاب الدائم ، وأنكروا ذلك ، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء ، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل{[52327]} والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق ، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى : { تبصرة وذكرى } حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات .

ثانيها : منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها ، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا : لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى ، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان{[52328]} العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى ، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع .

ثالثها : قوله : رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون .

فصل

قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } فقيّد العبد بكونه منيباً ، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام ، فلم يخصص بقيدٍ{[52329]} .

قوله : «فَأَحْيَيْنَا بِهِ » أي بالماء و«مَيْتاً » صفة ل «بَلْدَةً » ولم يؤنث{[52330]} حملاً على معنى المكان{[52331]} . والعامة على التخفيف . وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ{[52332]} .

فإن قيل : ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } حيث أثبت ( الهاء ) {[52333]} هناك ؟

فالجواب : أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة ، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى{[52334]} الفاعلية ظاهر فيثبت{[52335]} فيه الهاء ، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء ، ويحقق{[52336]} هذا قوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } [ سبأ : 15 ] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر{[52337]} .

قوله : «كَذَلِكَ الْخُرُوجُ » أي من القبور أي كالإحياء الخروج .

فإن قيل : الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج ؟

فالجواب : تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات .

قال ابن الخطيب : وهذا يؤكد قولنا : إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله : { ذلك رجع بعيد } ؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول : كذلك الإخراج فلما قال : كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال : كذلك الرجوع والخروج{[52338]} .


[52324]:قال بهذين الوجهين العكبري في مرجعه السابق.
[52325]:الكشاف 4/5.
[52326]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[52327]:في الرازي: النجم.
[52328]:كذا في النسختين والأصح: ما كان العيش.
[52329]:وانظر في هذا كله تفسير الإمام 28/158.
[52330]:أي الميت.
[52331]:ولو قال: ميتة لجاز قاله القرطبي في الجامع 17/7.
[52332]:وهي شاذة.
[52333]:وهي شاذة ذكرت في البحر 8/122 ومختصر ابن خالويه 144 والإتحاف 398. وما بين القوسين سقط من (ب) وفي الرازي: التاء وليس الهاء.
[52334]:في (ب) نص.
[52335]:وفيها تنبت.
[52336]:وفيها: وتحقيق.
[52337]:وانظر الرازي 28/160.
[52338]:وانظر الرازي 28/160.