قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم } ، أي :على آثار النبيين الذي أسلموا .
قوله تعالى : { بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه } ، أي : في الإنجيل .
قوله تعالى : { هدىً ونور ومصدقاً } ، يعني الإنجيل .
قوله تعالى : { لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظةً للمتقين } .
وبعد أن بين - سبحانه - منزلة التوراة وما اشتملت عليه من هدايات وتشريعات أتبع ذلك ببيان منزلة الإِنجيل وما اشتمل عليه من مواعظ وأحكام . . فقال - تعالى - :
{ وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى . . . }
قوله : { وَقَفَّيْنَا } معطوف على قوله قبل ذلك { أَنزَلْنَا التوراة } وأصل القفو اتباع الأثر : يقال قفاه يقفوه أي : اتبع أثره ، والتقفية : الاتباع ، يقال : قفيته بكذا أي اتبعته . وإنما سميت قافية الشعر قافية ؛ لأنها تتبع الوزن ، والقفا مؤخر الرقبة . ويقال : قفا أثره إذا سار وراءه واتبعه .
قال صاحب الكشاف : قفيته مثل عقبته ، إذا أتبعته . ثم يقال قفيته وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء .
فإن قلت فأين المفعول الأول في الآية ؟ قلت هو محذوف . والظرف الذي هو " على آثارهم " كالسّادمسّده ، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه . والضمير في قوله : { على آثَارِهِم } يعود على النبيين في قوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } وقوله : { آثَارِهِم } جمع أثر وهو العلم الذي يظهر للحس . وآثار القوم : ما أبقوا من أعمالهم . وقوله { على آثَارِهِم } تأكيد لمدلول فعل " قفينا " وإيماء إلى سرعة التقفية .
وقوله . { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : لما تقدمه ، لأن ما بين يدي الإِنسان كأنه حاضر أمامه .
والمعنى وأتبعنا على آثار أولئك النبيين الذين أسلموا وجوههم الله ، وأخلصوا له العبادة والذين كانوا يحكمون بالتوراة - كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم - أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ناهجا نهجهم في الخضوع والطاعة والإِخلاص لله رب العالمين ومصدقا للتوراة التي تقدمته ، ومنفذا لأحكامها إلا ما جاء نسخه في الإِنجيل منها .
وفي التعبير بقوله { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم } إشارة إلى أن عيسى - عليه السلام - لم يكن بدعة من الرسل ، وإنما هو واحد منهم ، جاء على آثار من سبقوه ، سالكا مسلكهم في الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلي بمكارم الأخلاق .
وفي التعبير بقوله { بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ } إيذان بأنه محدث كجميع المحدثات ، وأنه قد ولد من أمه كما يولد سائر البشر من أمهاتهم ، وأنه لا نسب له إلا من جهتها ، فليس له أب ، وليس ابنا لله - تعالى - ، وإنما هو عبد من عباد الله أوجده بقدرته ، وأرسله - سبحانه - لدعوة الناس إلى توحيده وعبادته .
وقوله : ( مصدقا ) حال من عيسى - عليه السلام - :
قال بعض العلماء : " ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام ، لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول ، بل بالتنفيذ ، لأن الإِنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة ، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة ، وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوارة من أحكام تتعلق بالأسرة ، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص .
ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح - عليه السلام - تدل على العمل بأحكام التوراة ، مثل قوله - عليه السلام - " ما جئت لأنقض الناموس " أي التوراة .
وكلمة { بَيْنَ يَدَيْهِ } تعبير قرآني ، للدلالة على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى - عليه السلام - وعلما عنده ، وهو علم خال من التحريف والتبديل ، أوحى الله به إليه .
ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ من الاستعارات الرائعة ، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى بن مريم - عليه السلام - كعلم المحسوس يكون موضوعاً بين يديه .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على ( قفينا ) .
وقد وصف الله - تعالى - الإِنجيل الذي أعطاه لعيسى بخمس صفات :
أولها : أنه فيه ( هدى ) أي : فيه هداية للناس إلى الحق الذي متى اتبعوه سعدوا في دنياهم وآخرتهم .
وثانيها : أنه فيه ( نور ) أي : ضياء يكشف لهم ما التبس عليهم من أمور دينية ودنيوية .
وثالثها : كونه { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } أي أن الإِنجيل مؤيد ومقرر لما جاءت به التوراة من أحكام وآداب وشرائع أنزلها الله فيها .
ورابعها : كونه : ( هدى ) أي : هو بذاته هدى فضلا على اشتماله عليه .
وخامسها : كونه : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي : تذكير لهم بما يرق له القلب ، وتصفو به النفس ، وتنزجر به القلوب عن غشيان المحرمات .
وقوله { فِيهِ هُدًى } جملة مكونة من خير مقدم ومبتدأ مؤخر . وقوله ( هدى ) والجملة كلها في موض نصب على أنها حال من الإِنجيل .
أي : أعطينا عيسى الإِنجيل حالة كونه مشتملا على الهدى والنور .
وقوله : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } حال أيضاً من الإِنجيل . ولا تكرار بين ( مصدقا ) الأولى وبين ( مصدقا ) الثانية ، لأن الأولى لبيان حال عيسى وأنه جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة وإلى تنفيذ أحكامها ، والثانية لبيان حال الإِنجيل وأنه جاء مقرر لما اشتملت عليه التوراة من أحكام أنزلها الله ، وأن من الواجب على بني إسرائيل أن يسيروا على هدى هذه الأحكام إلا ما نسخه الإِنجيل منها فعليهم أن يتبعوا أحكام الإِنجيل فيها .
قال ابن كثير : وقوله : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } أي : متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل . مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه - كما قال - تعالى - إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } ولهذا كان المشهور من قول العلماء : " أن الإِنجيل نسخ بعض أحكام التوراة " .
وقوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على ما تقدم ومنتظم معه في سلك الحالية .
وقال أولا { فِيهِ هُدًى } وقال ثانيا ( هدى ) لزيادة المبالغة في التنويه بشأن الإِنجيل ، فهو مشتمل على ما يهدي الناس إلى الحق والخير ، وهو في ذاته هدى ، لأنه منزل من عند الله ، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد .
قال الفخر الرازي : " وأما كونه ( هدى ) مرة أخرى ، فلأن اشتمال الإِنجيل على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوته . ولما كان أشد وجوه الاختلاف والمنازعة بين المسلمين وبين اليهود ، والنصارى في ذلك ، لا جرم أعاده الله - تعالى - مرة أخرى تنبيها على أن الإِنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير .
وأما كونه موعظة : فلاشتمال الإِنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة .
ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة .
( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة . وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . .
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل ، ليكون منهج حياة ، وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونورا ، وهدى وموعظة . . ولكن لمن ؟ . . ( للمتقين ) . فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة ، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور ؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب الجاسية الغليظة الصلده ، فلا تبلغ إليها الموعظة ؛ ولا تجد في الكلمات معانيها ؛ ولا تجد في التوجيهات روحها ؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها ؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود ، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة ، وإن الهدى موجود ، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة ، وإن الموعظة موجودة ، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي .