قوله تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } قال قتادة : إلا من تاب من ذنبه ، وآمن بربه ، وعمل عملاً صالحاً فيما بينه وبين ربه .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو الحسين بن محمد ابن عبد الله ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا موسى بن هارون الحمال ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الشافعي ، حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن محمد بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : " قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } الآية ، ثم نزلت : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط كفرحه بها وفرحه بإنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } فذهب جماعة إلى أن هذا التبديل في الدنيا ، قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك : يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصاناً . وقال قوم : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة ، وهو قول سعيد بن المسيب ، ومكحول ، يدل عليه ما : أخبرنا أبو محمد بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أبي أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو عمار الحسين بن خريت ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبأ عنه كبارها ، فيقال له عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من كبارها ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، فيقول : رب إن لي ذنوباً ما أراها ها هنا ، قال أبو ذر : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه " . وقال بعضهم : إن الله عز وجل يمحو بالندم جميع السيئات ، ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة .
ثم استثنى - سبحانه - التائبين من هذا العذاب المهين فقال : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ . . . } .
أى : يضاعف العذاب لمن يرتكب شيئا من تلك الكبائر . ويخلد فيه مهانا ، إلا من تاب عنها توبة صادقة نصوحا ، وآمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وداوم على إتيان الأعمال الصالحة ، فأولئك التائبون المؤمنون المواظبون على العمل الصالح " يبدل الله - تعالى - سيئاتهم حسنات " بأن يمحو - سبحانه - سوابق معاصيهم - بفضله وكرمه - ويثبت بدلها لواحق طاعاتهم ، أو بأن يحبب إليهم الإيمان ، ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، ويجعلهم من الراشدين .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقوله : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } فى معناه قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الصالحات . قال ابن عباس : هم المؤمنون . كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . .
والثانى : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . .
روى الطبرانى عن أبى فروة أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : " أأسلمت ؟ " قال : نعم .
قال : فافعل الخيرات ، واترك السيئات . فيجعلها الله لك خيرات كلها .
قال : " وغدراتى وفجراتى ؟ قال : نعم . " فما زال يكبر حتى توارى " .
وقوله - تعالى - : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله . أى : وكان الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه وأناب .
قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به ، وبالزناعفة وإحصانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحوّلهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هم الذي يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ . . . إلى آخر الاَية ، في وَحْشِيّ وأصحابه ، قالوا : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ، فأنزل الله فيهم : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين ، قتالاً مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، وبالزنا إحصانا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا . لمّا أنزل الله هذه الاَية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند الله خير ، فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ من المشركين من أهل مكة ، فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول : يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا . وأنزل الله في ذلك . يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ يعنيهم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ ، إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعني ما كان في الشرك . يقول الله لهم : أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ، يدعوهم إلى الإسلام ، فهاتان الاَيتان مكيتان ، والتي في النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا . . . الاَية ، هذه مدنية ، نزلت بالمدينة ، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تُمَيْلة ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه : يُبَدّلُ اللّهُ سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال :
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفا *** وَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفا
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ . . . إلى قوله يَخْلُدْ فِيهِ مُهانا : فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ . قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، قال : صدّق ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدّل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصريّ ، قال : حدثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا محمد بن حازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ ، وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الجَنّةَ ، قال : يُؤْتَى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيامَةِ ، فَيُقالُ : نَحّوا كِبارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها ، قال : فَيُقالُ لَهُ : عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا ، وَعملْتَ كَذَا وكَذَا ، قال : فَيَقُولُ : يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فَيُقالُ لَهُ : لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ » .
قال أبو جعفر : وأولَى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : فأولئك يبدّل الله سيئاتهم : أعمالهم في الشرك ، حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح ، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة ، إلى خلاف ما كانت عليه ، إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك ، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة ، وذلك ما لا يقوله ذو حجا .
وقوله : وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها . قوله : وَمَنْ تابَ يقول : ومن تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله وعَمِلَ صَالِحا يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سَيِىء أعماله في الشرك ، بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك ، بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِحا فإنّه يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ . . . إلى قوله وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال : وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء فإنّهُ يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا لم تخطر التوبة عليكم .
وقوله { إلا من تاب } الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين ، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[8884]} [ النساء : 48 ] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب ، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء{[8885]} بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه ، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8886]} ، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة ، وقاله سعيد بن جبير ، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل ، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت { إلا من تاب } الآية ، ونزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{[8887]} [ الزمر : 53 ] ، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح{[8888]} ، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت ، ورواه أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى : { يبدل الله سيئاتهم حسنات } .
معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن ، ورد على من قال هو في يوم القيامة ، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات ، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهو معنى كرم العفو ، وقرأ ابن أبي عبلة «يبْدِل » بسكون الباء وتخفيف الدال .