فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (70)

{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها ، وفرحه ب { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } . قيل والاستثناء متصل من الضمير المستتر في يلق ، أي إلا من تاب ، فلا يلق أثاما بل يزاد له في الإكرام بتبديل سيئاته حسنات . وقيل منقطع . قال أبو حيان : لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب ، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل صالحا . فلا يضاعف له العذاب . ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف ، قال : والأولى عندي أن يكون منقطعا ، أي لكن من تاب . قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر ، والزاني . واختلفوا في القاتل من المسلمين وقد تقدم بيانه في المائدة .

والإشارة بقوله { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } إلى المذكورين سابقا ، ومعنى تبديلها حسنات أنه يمحو عنهم سوابق المعاصي بالتوبة ، ويثبت لهم مكانها لأحق الطاعات . قال النحاس : من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع . قال الحسن : قوم يقولون هذا التبديل في الآخرة وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا ، يبدل الله لهم إيمانا مكان الشرك ، وإخلاصا مكان الشك ، وإحصانا مكان الفجور ، وقتل المشرك مكان المؤمن . قال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة ، وقيل إن السيئات تبدل الحسنات ، وبه قال جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم .

وقيل تبدل ملكة المعصية ودواعيها في النفس ، بملكة الطاعة بان يزيل الأولى ويأتي بالثانية مكانها . وقيل التبديل عبارة عن الغفران ، إي يغفر الله لهم تلك السيئات ، لا أنه يبدلها حسنات . قلت ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد ، ان يضع مكان كل سيئة حسنة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " {[1329]} وقال ابن عباس : أبدلهم الله بالكفر الإسلام ، وبالمعصية الطاعة ، وبالإنكار المعرفة ، وبالجهالة العلم . وعنه قال : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات .

وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فيعرض عليه صغارها ، وينحى عنه كبارها ، فيقال : علمت كذا وكذا وهو يقر ليس ينكر ، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء فيقال أعطوه بكل سيئة عملها حسنة ) {[1330]} والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة . { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } مقررة لما قبلها من التبديل ، وتكفير السيئات بالحسنات ، أي لم يزل متصفا بذلك .


[1329]:الترمذي كتاب البر باب 55 ـ الإمام أحمد 5/153 ـ 5/158.
[1330]:الإمام أحمد 5/157 ـ مسلم 190 بلفظ آخر.