103- ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى - عليه السلام - ومعه دلائلنا التي تدل على صدقه فيما يُبلغه عنا إلى فرعون وقومه ، فبلَّغهم موسى دعوة ربه ، وأراهم آية الله ، فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها ، كِبْرا وجحوداً فاستحقوا من الله عقوبة صارمة كانت بها نهاية أمرهم ، فانظر - أيها النبي - نهاية المفسدين في الأرض .
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : الرسل المتقدم ذكرهم ، كنوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين . { مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : بحججنا ودلائلنا البينة إلى { فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر في زمن موسى ، { وَمَلَئِهِ } أي : قومه ، { فَظَلَمُوا بِهَا } أي : جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا ، كقوله تعالى{[11992]} { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] أي : الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله ، أي : انظر - يا محمد - كيف فعلنا بهم ، وأغرقناهم عن آخرهم ، بمرأى من موسى وقومه . وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه ، وأشفى لقلوب أولياء الله - موسى وقومه - من المؤمنين به{[11993]} .
انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم تُوَف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار ، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أَعمالها ، جزاء وفاقاً ، إنْ خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لِما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة ، والأنباء القيمة ، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام ، وأرسل رسولها هادياً وشارعاً تمهيداً لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها ، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقيْن كثيريْن اتَبع أحدهم موسى وكفَر به الآخر ، كما اتّبع محمداً عليه السلام جمع عظيم وكفر به فريق كثير ، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن .
وقد دلت { ثم } على المُهلة : لأن موسى عليه السلام بعث بعد شعيب بزمن طويل ، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر ، رجَا الله أن يهديَه فوجد شعيباً ، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجاً له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل ، فإن منها ما بينه وبين موسى قرونَ مثل قوم نوح ، ومثل عاد وثمود ، وقوم لوط ، فالمهلة التي دلت عليها { ثم } متفاوتة المقدار ، مع ما يقتضيه عطف الجملة بحرف { ثم } من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل . فحرف ( ثم ) هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي .
والضمير في قوله : { من بعدهم } يعود إلى القرى ، باعتبار أهلها ، كما عادت عليهم الضمائر في قوله { ولقد جاءتهم رسلهم } الآيتين [ الأعراف : 101 ] .
والباء في { بآياتنا } للملابسة ، وهي في موضع الحال من موسى ، أي : مصحوباً بآيات منا ، والآيات : الدلائل على صدق الرسول ، وهي المعجزات ، قال تعالى : { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [ الأعراف : 106 ، 107 ] .
و { فرعون } علَم جنس لملك مصر في القديم ، أي : قبل أن يملكها اليونان ، وهو اسم من لغة القبط . قيل : أصله في القبطية ( فاراه ) ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن ( رع ) اسم الشمس فمعنى ( فاراه ) نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس ، لأنه يصلح الناس ، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية ، ولعله مما أدخله الإسلام ، وهذا الاسم نظير ( كسرى ) لملك ملوك الفرس القدماء ، و ( قيصر ) لملك الروم ، و ( نمروذ ) لملك كنعان ، و ( النجاشي ) لملك الحبش ، و ( تُبَع ) لملك ملوك اليمن ، و ( خان ) لملك الترك .
واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه : منفطاح الثاني ، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر ، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح .
والملأ : الجماعة من علية القوم ، وتقدم قريباً ، وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند ، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل ، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر ، ولما كان خروجهم من مصر متوقفاً على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا أن الله أرسل موسى بذلك ، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهُدى ، لأن كل نبيء يُعلن التوحيد ويأمر بالهدى ، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصاً على الهُدى إلاّ أنَّه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك ، والفاء في قوله : { فظلموا } للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب .
والظلم : الاعتداء على حق الغير ، فيجوز أن يكون { فظلموا } هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية ، وحذف مفعول ( ظلموا ) لقصد العموم ، والمعنى : فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات ، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لَمّا رأوا آياته ، كما قال تعالى : { قال فرعون أآمنتم به قبل أن آذن لكم } إلى قوله { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } [ الأعراف : 123 ، 124 ] الآية .
وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يُؤمنوا ، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها .
ويجوز أن يكون ضمّن { ظلموا } معنى كفروا فعدّي إلى الآيات بالباء ، والتقدير : فظلموا إذ كفروا بها ، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة ، إذ الظلم الاعتداء على الحق فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة ( آيات ) فقد اعتدى على حق التأمل والنظر .
والفاء في قوله : { فانظر } لتفريع الأمر على هذا الإخبار ، أي : لا تتريّث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبّر فيما سنقص عليك من عاقبتهم .
والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله : { فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } [ الأعراف : 136 ] وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المُؤَدِّي إلى العلم فهو من أفعال القلوب .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن يَبْلغْه ، أو المخاطب غيرُ معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات ، فالتقدير : فانظر أيها الناظر ، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين .
ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة ، عبر عنه ب ( كيف ) الموضوعة للسؤال عن الحال ، والاستفهام المستفاد من ( كيف ) يقتضي تقدير شيء ، أي : انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف .
وعُلّق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده ، فصار التقدير : فانظر ، ثم افتتح كلاماً بجملة { كيف كان عاقبة المفسدين } ، والتقدير في أمثاله أن يقدر : فانظر جوابَ كيفَ كان عاقبة المفسدين .
والعاقبة : آخر الأمر ونهايته ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في سورة الأنعام ( 11 ) .
والمراد بالمفسدين : فرعون وملأه ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيهاً على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم ، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال ، وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم بعثنا من بعدهم}، يعني من بعد الرسل، {موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه}، يعني اليد والعصا... {فظلموا بها}، يعني فجحدوا بالآيات، وقالوا: ليست من الله فإنها سحر، {فانظر} يا محمد {كيف كان عاقبة المفسدين} في الأرض بالمعاصي، فكان عاقبتهم الغرق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران. والهاء والميم اللتان في قوله: مِنْ بَعْدِهِمْ هي كناية ذكر الأنبياء عليهم السلام التي ذكرت من أوّل هذه السورة إلى هذا الموضع. "بآيَاتِنَا "يقول: بحججنا وأدلتنا إلى فرعون وملئه، يعني: إلى جماعة فرعون من الرجال. "فَظَلَمُوا بِها" يقول: فكفروا بها. والهاء والألف اللتان في قوله «بها» عائدتان على الآيات. ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي بعثنا بها موسى إليهم، وإنما جاز أن يقال: فظلموا بها، بمعنى: كفروا بها، لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه... والكفر بآيات الله: وضع لها في غير موضعها، وصرف لها إلى غير وجهها الذي عنيت به. "فانْظُرْ كَيْف كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد بعين قلبك كيف كان عاقبة هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض، يعني فرعون وملأه، إذ ظلموا بآيات الله التي جاءهم بها موسى عليه السلام، وكان عاقبتهم أنهم أغرقوا جميعا في البحر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} هذا الخطاب في الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المراد بالخطاب غيره؛ أمر كلاّ بالنظر في عاقبة المفسدين لما حل بفسادهم؛ لأن من نظر في عاقبة ما حل بمعصية أو فساد يمتنع عن مثله. وأمكن أن يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجهين: أحدهما: لما له بما حل بهم بعض التّسلي لأذاهم إياه؛ لأن من توهّم حلول الهلاك على عدوّه في العاقبة صبر على أذاه، ويكون له بعض التسلي في ذلك.
والثاني: ينبئهم بما يحل بهم في العاقبة ليمتنعوا عما يرتكبون من المعاصي، لأن ذلك أزجر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "معنى النظر هو: محاولة التصور للشيء بالفكر فيه، وهو طلب إدراك المعنى بالتأويل له. وقيل: هو تحديق القلب إلى المعنى لإدراكه، وكأنه قيل فانظر -يعني بالقلب- كيف كان عاقبتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما انقرضت أيامُهم، وتَقَاصَر عن بساط الإجابة إقْدامُهم بعث موسى نبيَّه، وضمَّ إليه هارون صفيَّه، فقُوبِلا بالتكذيب والجحود، فسلك بهم مسلك إخوانهم في التعذيب والتبعيد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَظَلَمُواْ بها} فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أو فظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فلذلك قيل: فظلموا بها، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان.
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص، لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء، وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام. وقوله: {بآياتنا} فيه مباحث. البحث الأول: هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره، إذ لو لم يكن مختصا بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره. والبحث الثاني: هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة، ومعجزات كثيرة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قصة موسى عليه الصلاة والسلام:... وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة (الأعراف) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة (النمل والقصص) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على 130 مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه. وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى."
قال الله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} هذه القصة معطوفة على جملة ما قبلها من القصص من قوله تعالى: {لقد أرسلنا نوحا} إلى قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} القصة. فهي نوع وهن نوع آخر، والفرق بين النوعين أن تلك القصص متشابهة في تكذيب الأقوام فيها لرسلهم ومعاندتهم إياهم وإيذائهم لهم، وفي عاقبة ذلك بإهلاك الله تعالى إياهم بعذاب الاستئصال. ولذلك عطف كل واحدة منهن على الأولى بدون إعادة ذكر الإرسال للإيذان بأنها نوع واحد فقال: {وإلى عاد أخاهم هودا} {وإلى ثمود أخاهم صالحا} {ولوطا} {وإلى مدين أخاهم شعيبا} وقد أعاد في قصة موسى ذكر الإرسال للتفرقة ولكن بلفظ البعث وهو أخص وأبلغ من لفظ الإرسال لأنه يفيد معنى الإثارة والإزعاج إلى الشيء المهم، ولم يذكر في القرآن إلا في بعث الموتى وفي الرسالة العامة أي بعث عدة من الرسل، وفي بعثة نبينا وموسى خاصة، وكذا في بعث نقباء بني إسرائيل وبعث من انتقم منهم وعذبهم وسباهم حين أفسدوا في الأرض.
فالتعبير بلفظ البعث هنا يؤكد ما أفادته إعادة العامل من التفرقة بين نوعي الإرسال –أعني أن لفظه الخاص مؤكد لمعناه العام –كما يؤكدها عطف هذه القصة على أولئك ثم التي تدل على الفصل والتراخي إما في الزمان وإما في النوع أو الرتبة والأخير هو المراد هنا. وبيانه أن هذا الإرسال وما ترتب عليه وأعقبه في قوم موسى مخالف لجملة ما قبله مخالفة تضاد فقد أنقذت به أمة من عذاب الدنيا وهو تعبيد فرعون وملئه لها وسومهم إياها أنواع الخزي والنكال، واهتدت إلى عبادة الله تعالى وحده وإقامة شرعه فأعطاها في الدنيا ملكا عظيما، وجعل منها أنبياء وملوكا، وأعد بذلك المهتدين منها لسعادة الآخرة الباقية فأين هذا الإرسال من ذلك الإرسال، الذي أعقب أقوام أولئك الرسل في الدنيا عذاب الاستئصال، وفي الآخرة ما هو أشد وأبقى من الخزي والنكال؟
وقد يظهر للتراخي الزماني وجه باعتبار كون العطف على قصة نوح، فإن ما عطف عليها من قصص ومن بعده قد جعل تابعا ومتمما لها بعدم إعادة العامل "أرسلنا "كما تقدم آنفا، وإلا فإن شعيبا وهو آخر أولئك الرسل كان في زمن موسى وهو حموه، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى وهو لديه مع زوجه وأولاده في سيناء وأرسله منها إلى فرعون وملئه لإنقاذ بني إسرائيل من حكمه وظلمه.
ويؤيد ذلك كله أن الله تعالى ذكر إرسال نوح في سورة يونس وقفى عليه بقوله: {ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم} [يونس: 74] الخ وقال بعد هذا {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه} [يونس: 75] ومن المعلوم عقلا واستنباطا أن التراخي بين بعثة نوح ومن بعده من الرسل زماني إذ كان بعد تناسل الذين نجوا معه في السفينة وتكاثرهم وصيرورتهم شعوبا وقبائل، وهذا الإجمال في سورة يونس في الرسل مبني على التفصيل الذي سبقه في سورة الأعراف التي نزلت قبلها أو هو أعم منه فإن الأمم قد كثرت بين نوح وموسى عليهما السلام وقد قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} [النحل: 36] وقال لخاتم رسله {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78] وقد بينا حكمة تخصيص من ذكر في هذه السورة منهم بالذكر وكذا من ذكر في سورة الأنعام وغيرها.
والمعنى: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وملئه. أما فرعون فهو لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس الأولين... وأما ملؤه فهم أشراف قومه ورجال دولته، ولم يقل إلى فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شيء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشد، وإنما بعث الله تعالى موسى لإنقاذ قومه بني إسرائيل من فرعون ورجال دولته وإقامة دين الله تعالى بهم في بلاد أجدادهم، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر قومهم لأنهم كانوا تبعا لهم بل كان هذا شأن جميع الأقوام مع ملوكهم المستبدين الجائرين.
وقد علم الله تعالى أن فرعون وملأه لا يؤمنون بموسى وأن قومه تبع له لا اختيار لهم وأكثرهم مقلدون ولذلك قتل السحرة لما آمنوا بموسى، وإنما آمنوا لأنهم كانوا علماء مستقلي العقل أصحاب فهم ورأي، وكان السحر من علومهم وفنونهم الصناعية التي تتلقى بالتعليم وليس كالآيات التي جاء بها موسى فإنها من خوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وقد أقام الله تعالى الحجة بآيات موسى على فرعون وملئه {فظلموا بها} أي فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، كما كان يكون لهم مثل أجورهم لو آمنوا بالتبع لهم. وجملة القول أن موسى عليه السلام كان مرسلا إلى قومه بني إسرائيل بالذات وإلى فرعون وملئه بالتبع، ولك أن تقول إن الإرسال إلى بني إسرائيل مقصد وإلى فرعون وملئه وسيلة. وقد عدي الظلم في الجملة بالباء لتضمينه معنى الكفر فصار جامعا للمعنيين ولا يصح تفسيره بأحدهما، إذ لو أريد أحدهما لعبر به ولم يكن للتضمين فائدة. وقيل إن الباء في قوله فظلموا بها للسببية أي فظلموا أنفسهم وقومهم بسبب هذه الآيات ظلما جديدا وهو ما ترتب على الجحود من العذاب بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ثم بالغرق كما سيجيئ في محله. والأول أظهر وأبلغ على أنه لا تنافي بينهما في المعنى.
{فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي فانظر أيها الرسول – أو أيها السامع والتالي بعين العقل والفكر – كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وظلموا بها عملا بمقتضى فسادهم. وهذا تشويق لتوجيه النظر لما سيقصه تعالى من عاقبة أمرهم إذ نصر عبده ورسوله موسى عليهم وهو فرد من شعب مستضعف مستعبد لهم، وهم أعظم أهل الأرض دولة وصولة وقوة، نصره عليهم أولا بإبطال سحرهم وإقناع علمائهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من الله تعالى، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن اتبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة ظاهرة وحجة قائمة مدة الدهر، على القائلين إنما الغلب للقوة المادية على الحق، ولاسيما المغرورين بعظمة دول أوربة الظالمة لمن استضعفتهم من أهل الشرق، وعلى أولئك الباغين بالأولى، فأولى لهم أولى، ثم أولى لهم أولى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره. وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من غيرهم في بيئة نزول القرآن، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب.
وثانياً: لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء. وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أُخرى منها أيضاً في سور أُخرى، مثل: سورة البقرة، طه، الشعراء، النمل، القصص، وسور أُخرى، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثمّ وضعناها جنباً إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث إنّ مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدماً من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر، وحوى عبراً ونكات أكثر، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة. وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإِلهي العظيم في خمس دورات ومراحل:
ا ـ مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعوني. 2 ـ مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيب (عليه السلام).
ـ مرحلة بعثته، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.
ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون، والحوادث التي جرت عليه في الطريق، وعند وروده إلى بيت المقدس.
ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل. ويجب الانتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من السور قسماً ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس. ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسى (عليه السلام) هذه الآيات، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة، وهي تشير إلى مراحل ما بعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأُخرى، وبخاصّة سورة القصص.
وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.