وقوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } أي : ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذ بهم ذات اليمين . قال السُّدِّيّ : وهم جمهور أهل الجنة . وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال ، وهم عامة أهل النار - عياذًا بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم ، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ؛ ولهذا قال : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية [ فاطر : 32 ] ، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه .
قال سفيان الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال : هي التي في سورة الملائكة : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } .
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة .
وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال : أصنافا ثلاثة .
وقال{[27989]} مجاهد : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } [ قال ]{[27990]} : يعني : فرقا ثلاثة . وقال ميمون بن مِهْران : أفواجا ثلاثة . وقال عُبَيد الله{[27991]} العتكي ، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } اثنان في الجنة ، وواحد في النار .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِمَاك ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] قال : الضرباء ، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله يقول : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً . فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }
قال : هم الضرباء{[27992]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله المثنى ، حدثنا البراء الغنوي ، حدثنا الحسن ، عن معاذ بن جبل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا{[27993]} هذه الآية :
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ } {[27994]} ، { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ } {[27995]} فقبض بيده قبضتين فقال : " هذه للجنة{[27996]} ولا أبالي ، وهذه للنار{[27997]} ولا أبالي " {[27998]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " {[27999]} .
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } : هم الأنبياء ، عليهم السلام . وقال السُّدِّيّ : هم أهل عليين . وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ، قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ، ومؤمن آل " يس " ، سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن هارون الفلاس ، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبي نَجِيح به .
وقال ابن أبي حاتم : وذكر محمد {[28000]} بن أبي حماد ، حدثنا مِهْرَان ، عن خارجة ، عن قُرَّة ، عن ابن سِيرين : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الذين صلوا للقبلتين .
ورواه ابن جرير{[28001]} من حديث خارجة ، به .
وقال الحسن وقتادة : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : من كل أمة .
وقال الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ثم قال : أولهم رواحًا إلى المسجد ، وأولهم خروجًا في سبيل الله .
وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 22 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز{[28002]} الرازي ، حدثنا خارجة بن مُصعَب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة . فقال : لا أفعل . فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان . ثم قرأ عبد الله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان{[28003]} بن سعيد الدارمي في كتابه : " الرد على الجهمية " ، ولفظه : فقال الله عز وجل : " لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " {[28004]} .
وقوله : { والسابقون } ابتداء و : { السابقون } الثاني . قال بعض النحويين : هو نعت للأول ، ومذهب سيبويه أنه خبر الابتداء ، وهذا كما تقول العرب : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على معنى تفخيم أمر وتعظيمه ، ومعنى الصفة هو أن تقول : { والسابقون } إلى الإيمان { السابقون } إلى الجنة والرحمة { أولئك } ، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر .
وقوله : { والسابقون } هذا الصنفُ الثالث في العدّ وهم الصنف الأفضل من الأصناف الثلاثة ، ووصفُهم بالسبق يقتضي أنهم سابقون أمثالهم من المحسنين الذين عبر عنهم بأصحاب الميمنة فهم سابقون إلى الخير ، فالناس لا يتسابقون إلا لنوال نفيس مرغوب لكل الناس ، وأما الشر والضرّ فهم يتكعكون عنه .
وحقيقة السبق : وصول أحد مكاناً قبل وصول أحد آخر . وهو هنا مستعمل على سبيل الاستعارة ، وقد جمع المعنيين قول النابغة :
سَبقتَ الرجال الباهشين إلى العُلا *** كسبق الجواد اصطاد قبل الظوارد
فيجوز أن يكون { السابقون } مستعملاً في المبادرة والإسراع إلى الخير في الدين كما في قوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } في سورة براءة ( 100 ) .
ويجوز أن يكون مستعملاً في المغالبة في تحصيل الخير كقوله تعالى : { أولئك يسارعون في الخيران وهم لها سابقون } في سورة المؤمنين ( 61 ) .
وقوله : { السابقون } ثانياً يجوز جعله خبراً عن { السابقون } الأول كما أُخبر عن أصحاب الميمنة بأنهم { ما أصحاب الميمنة } لأنه يدل على وصفهم بشيء لا يكتنه كنهه بحيث لا يفي به التعبير بعبارة غير تلك الصفة إذ هي أقصى ما يسعه التعبير ، فإذا أراد السامع أن يتصور صفاتهم فعليه أن يتدبر حالهم ، وهذا على طريقه قوله : { أولئك هم المفلحون } [ الأعراف : 157 ] . ويجوز جعله تأكيداً للأول فمآل جملة { ما أصحاب الميمنة } ونظيرتها وجملة { والسابقون السابقون } هو التعجيب من حالهم وطريقُه هو الكناية ولكنّ بين الكنايتين فرقاً بأن إحداهما كانت من طريق السؤال عن الوصف ، والأخرى من طريق تعذر التعبير بغير ذلك الوصف .
والمعنى : أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة بحيث لا يجد المتكلم خبراً يُخبر به عنهم أدلّ على مرتبتهم مِن اسم { السابقون } فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإِخبار ب { ما } الاستفهامية التعجيبية في قوله : { ماأصحاب الميمنة } ، وهذا مثل قول أبي الطمحان القفيني :
وإني من القوم الذين هُمُو هُمُو *** إذا مات منهم سيد قام صاحبه
مع ما في اشتقاق لقبهم من « السبق » من الدلالة على بلوغهم أقصى ما يطلبه الطالبون .
وحذف متعلق { السابقون } في الآية لقصد جعل وصف { السابقون } بمنزلة اللقب لهم ، وليفيد العموم ، أي أنهم سابقون في كل ميدان تتسابق إليه النفوس الزكية كقوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] ، فهؤلاء هم السابقون إلى الإِيمان بالرسل وهم الذين صحبوا الرسل والأنبياء وتلقوا منهم شرائعهم ، وهذا الصنف يوجد في جميع العصور من القدم ، ومستمر في الأمم إلى الأمة المحمدية وليس صنفاً قد انقضى وسبقَ الأمةَ المحمدية . وأُخِّر { السابقون } في الذكر عن أصحاب اليمين لتشويق السامعين إلى معرفة صنفهم بعد أن ذكر الصنفان الآخران من الأصناف الثلاثة ترغيباً في الاقتداء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"والسّابِقُونَ السّابِقُونَ "وهم الزوج الثالث، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون الأوّلون... عن قتادة، قوله: "فَأصْحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ": أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم "وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ": أي ماذا لهم وماذا أعدّ لهم. "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ": أي من كلّ أمة.
[عن] ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسُنت حال المؤمن، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلاً، وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة: وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والاَخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والاَخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: "فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَة وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ" قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: "ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ" لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأوّل، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي؟ والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ"؛
فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين...
وقال آخرون:... [عن] عثمان بن أبي سودة، قال: "السّابِقُونَ السّابِقُونَ" أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله...
يقول جلّ ثناؤه: أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}...هم الذين صلوا القبلتين دليله قوله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100]...
هم أهل القرآن وهم المتوجون يوم القيامة... وقال ابن عباس: السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والسابقون إلى الخير إنما كانوا أفضل لانهم يقتدى بهم في الخير ويسبقوا إلى أعلى المراتب قبل من يجيئ بعدهم، فلهذا تميزوا من التابعين بما لا يلحقونهم به ولو اجتهدوا كل الاجتهاد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: وهم الصنف الثالث. وهم السابقون إلى الخصال الحميدة، والأفضال الجميلة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والسابقون السابقون، يريد: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، ووقف بعضهم على: والسابقون؛ وابتدأ السابقون أولئك المقرّبون، والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة: ما أصحاب الميمنة، وما أصحاب المشأمة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{والسابقون} ابتداء و: {السابقون} الثاني. قال بعض النحويين: هو نعت للأول، ومذهب سيبويه أنه خبر الابتداء، وهذا كما تقول العرب: الناس الناس، وأنت أنت، وهذا على معنى تفخيم أمر وتعظيمه، ومعنى الصفة هو أن تقول: {والسابقون} إلى الإيمان {السابقون} إلى الجنة والرحمة {أولئك}، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر...
{والسابقون السابقون، أولئك المقربون}... {السابقون السابقون} أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر، وهاهنا لطيفة، وهي أنه في أصحاب الميمنة قال: {ما أصحاب الميمنة} بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وهاهنا لم يقل: والسابقون ما السابقون، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له: إن كنت تعلم فبين الكلام، وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له: كذبت ولا يقال: كيف كذا؟ وما الجواب عن ذلك؟ فكذلك في: {والسابقون} ما جعلهم بحيث يدعون، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم، بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز، وعلى هذا فقوله تعالى: {والسابقون السابقون} كقول العالم: لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...ذكر أصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات، وإلى ترك المعاصي.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمَعْنى والسابقونَ هم الذينَ اشتهرتْ أحوالُهم وعرفتْ محاسنُهم.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوّلين هو أن يقترن به ما بعده، وهو قوله: {أُوْلَئِكَ المقربون * فِي جنات النعيم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يذكر الفريق الثالث، فريق السابقين، يذكرهم فيصفهم بوصفهم: (والسابقون السابقون).. كأنما ليقول إنهم هم هم. وكفى. فهو مقام لا يزيده الوصف شيئا!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحقيقة السبق: وصول أحد مكاناً قبل وصول أحد آخر. وهو هنا مستعمل على سبيل الاستعارة.والمعنى: أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة بحيث لا يجد المتكلم خبراً يُخبر به عنهم أدلّ على مرتبتهم مِن اسم {السابقون} فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإِخبار ب {ما} الاستفهامية التعجيبية في قوله: {ماأصحاب الميمنة}،
والصنف الأخير هم {والسابقون السابقون} كررها للتعظيم، وهؤلاء وإن أتوا في الذكر مؤخرا إلا أنهم في الترتيب أولا، وهم أعلى الدرجات بدليل أنه سبحانه أخبر عنهم بقوله: {أولئك المقربون} أي: مقربون من العرش، فإن أردت الترتيب من أعلى فالسابقون ثم أصحاب الميمنة ثم أصحاب المشأمة.
إذن: هذه مراتب ثلاث احتلها أصحابها في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا: فالسابق إنسان بارك حياته بعمل الخير منذ صغره، ثم ظل على هذا حتى قضى فسبق إلى الجنة، وصاحب اليمين أو الميمنة إنسان باكر حياته منذ صغره يعمل الشر، لكن تداركته نفسه اللوامة فتاب وأناب وظل على عمل الخير حتى قبض، وصاحب المشأمة هو الرجل الذي باكر حياته بعمل الشر، وظل على ذلك حتى قبض.
والجنة هي عطاء الله، وفيها يجتمع أصحاب الميمنة والسابقون، إلا أن السابقين يكونون في منزلة أعلى وأقرب من العرش {أولئك المقربون} أين؟ في جنات النعيم، ونفهم هذا من قوله تعالى في سورة الزمر:
{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73)} [الزمر]..ثم قال بعدها: {وترى الملائكة حافين من حول العرش... (75)} [الزمر]
إذن: القرب هنا يعني القرب من العرش.
والسابق هنا هو الذي ينافس غيره ليسبقه، والمسابقة هنا في الخير وهو أمر مطلوب شرعا. لذلك أمرنا الحق سبحانه بأن نسارع وأن نسابق: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض.. (123)} [ال عمران] وقال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم.. (31)} [الحديد]
والسباق هو سباق إيمان وعمل صالح، سباق من يريد أن يسبق، وفي نفس الوقت يحب لأخيه ما يحب لنفسه، سباق ليس فيه حقد ولا أنانية.
المؤمن يسابق غيره، والمسألة واضحة في ذهنه، فالجوائز تنتظر من يسبق، والعطاء عطاء لا ينفد، والعجيب أن المؤمن يسرع فيعمل الخير في حياته، وقد يسرع حتى في موته شوقا إلى الجنة التي رأى علاماتها وهو في سكرات الموت.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون). (السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص، فهم أسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة. وبناءً على هذا، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله، أو أداء الصلوات الخمس، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانباً من هذا المفهوم الواسع، وإلاّ فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال، والطاعات وغيرها...