يقول تعالى : " وَقَفَّيْنَا " أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ } يعني : أنبياء بني إسرائيل [ عليه السلام ]{[9918]} { بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها { وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } أي : هدى إلى الحق ، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات . { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : متبعًا لها ، غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ] ؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة .
وقوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } أي : وجعلنا الإنجيل { هُدًى } يهتدى به ، { وَمَوْعِظَةً } أي : وزاجرًا{[9919]} عن ارتكاب المحارم والمآثم { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه .
{ قفينا } تشبيه كأن مجيء عيسى كان من قفاء مجيء النبيين وذهابهم ، والضمير في { آثارهم } للنبيين المذكورين في قوله : { يحكم بها النبيون } [ المائدة : 44 ] و { مصدقاً } حال مؤكدة و { التوراة } بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة ، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع ، و { الإنجيل } اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر ، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الأنجيل » بفتح الهمزة ، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران . و «الهدى » الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه . و «النور » ما فيه مما يستضاء به . و { مصدقاً } حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال . وقال مكي وغيره : { مصدقاً } معطوف على الأول .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني . وقرأ الناس «وهدىً وموعظةً » بالنصب . وذلك عطف على { مصدقاً } وقرأ الضحاك «وهدى وموعظةٌ » بالرفع وذلك متجه . وخص «المتقين » بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة .
عطف على جملة { إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] انتقالاً إلى أحوال النّصارى لقوله : { وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام الّتي كتبها الله عليهم ، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التّوراة : أحدهما : ما حرّفوه وتردّدوا فيه بعد أن حرّفوه فشكّوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرّسول ؛ وثانيهما : ما حرّفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرّجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص . وهذا نوع ثالث : وهو إعراضهم عن حكم الله بالكليّة ، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام .
والتقفية مصدر قفّاه إذا جعله يَقفوه ، أي يأتي بعده . وفعلُه المجرّد قَفا بتخفيف الفاء ومعنى قَفاه سار نحو قفاه ، والقفا الظهر ، أي سار وراءه . فالتقفية الإتْباع متشقّة من القفا ، ونظيره : تَوجَّه مشتقّاً من الوجه ، وتعقّب من العقب . وفعل قفّى المشدّد مضاعف قفا المخفّف ، والأصل في التضعيف أن يفيد تعديّة الفعل إلى مفعول لم يكن متعدّياً إليه ، فإذا جعل تضعيف { قفّينا } هنا معدّياً للفعل اقتضى مفعولين : أوّلهما : الّذي كان مفعولاً قبل التّضعيف ، وثانيهما : الّذي عدّي إليه الفعل ، وذلك على طريقة باب كَسَا ؛ فيكون حقّ التّركيب : وقفَّيناهم عيسى ابن مريم ، ويكون إدخال الباء في { بعيسى } للتّأكيد ، مثل { وامسحوا برءوسكم } [ المائدة : 6 ] ، وإذا جعل التّضعيف لغير التّعديّة بل لمجرّد تكرير وقوع الفعل ، مثل جَوّلت وطوّفت كان حقّ التّركيب : وقفّيناهم بعيسى ابن مريم . وعلى الوجه الثّاني جرى كلام « الكشاف » فجعل باء { بعيسى } للتعدية . وعلى كلا الوجهين يكون مفعول { قفّينا } محذوفاً يدلّ عليه قوله { على آثارهم } لأنّ فيه ضمير المفعول المحذوف ، هذا تحقيق كلامه وسلّمه أصحاب حواشيه .
وقوله { على آثارهم } تأكيد لمدلول فعل { قفّينا } وإفادة سرعة التقفية . وضمير { آثارهم } للنّبيئين والرّبانيين والأحبار . وقد أرسل عيسى على عقب زكرياء كافِل أمّه مريم ووالدِ يحيى . ويجوز أن يكون معنى { على آثارهم } على طريقتهم وهديهم . والمصدّق : المخبر بتصديق مخبر ، وأريد به هنا المؤيّدُ المقرّر للتّوراة .
وجَعَلها { بين يديه } لأنّها تقدّمتْه ، والمتقدّم يقال : هو بين يدي من تقدّم . و { من التّوراة } بيان { لمَا } . وتقدّم الكلام على معنى التّوراة والإنجيل في أوّل سورة آل عمران .
وجملة { فيه هدى ونور } حال . وتقدّم معنى الهُدى والنّور .
و { مصدّقاً } حال أيضاً من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله { بعيسى ابن مريم مصدّقاً } لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التّصديق ؛ فتصديق عيسى التّوراةَ أمره بإحياء أحكامها ، وهو تصديق حقيقي ؛ وتصديق الإنجيل التّوراة اشتماله على ما وافق أحكامَها فهو تصديق مجازي . وهذا التّصديق لا ينافي أنّه نَسخَ بعض أحكام التّوراة كما حكى الله عنه { ولأحِلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم } [ آل عمران : 50 ] ، لأنّ الفعل المثبَت لا عموم له .
والموعظة : الكلام الّذي يلِين القلب ويَزجر عن فعل المنهيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.