15- ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً عظيماً ، حملته أمه حملاً ذا مشقة ، ووضعته وضعاً ذا مشقة ، ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً قاست فيها صنوف الآلام ، حتى إذا بلغ كمال قوته وعقله ، وبلغ أربعين سنة ، قال : رب ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت علىَّ وعلى والدي ، وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه ، واجعل الصلاح سارياً في ذريتي ، إني تبت إليك من كل ذنب ، وإني من الذين أسلموا أنفسهم إليك .
وصّينا الإنسان : أمرناه أن يفعل كذا . . ومثله أوصاه .
كُرها : بضم الكاف وفتحها : مشقة .
حَمْله وفصاله : مدة حَمْلِه وفطامه .
أشده : صار بالغا مستحكما القوة والعقل .
أوزِعني : ألهِمني ، رغّبني ، وفقني .
أصلحْ لي في ذريتي : اجعل لي خلَفاً صالحا .
ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين ، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الإنسان .
ووصّينا الإنسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما ، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا ، وفي وضعه آلاماً كثيرة ، ثم في إرضاعه وتربيته . فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها . . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم . وقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات .
روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمَّكَ ثم أمك ثم أمك ، ثم أباك » ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة .
وهناك حديث مشهور : « الجنّةُ تحت أقدام الأمهات » رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنه ، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنه .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين : «هما جنَّتاك ونارك » وفي البخاري ومُسْلم والترمذي : « أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم » والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتب الحديث .
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }
يعني أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا ، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية ، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها ، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل .
ويؤخذ من هذه الآية { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } ومن الآية : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فإذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به .
حتى إذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً ، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية ، يقول عندها : ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ ، ووفقني إلى العمل الصالحِ الذي ترضاه ، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والإيمان ، إني تُبت إليك من كلّ ذنب { وَإِنِّي مِنَ المسلمين } المستسلمين لأمرِك ونَهيك .
قرأ أهل الكوفة : إحسانا وقرأ الباقون : حسنا . وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو عمرو : كَرها بفتح الكاف . والباقون : كُرها بضمها وهما لغتان . وقرأ يعقوب : وفصله ، والباقون : وفصاله . وهما لغتان .
الأولى- قوله تعالى : " ووصينا الإنسان بوالديه " بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه ، فقد يطيعهما وقد يخالفهما ، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض . فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض ، قاله القشيري .
الثانية- قوله تعالى : " حسنا " قراءة العامة " حُسناً " وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام . وقرأ ابن عباس والكوفيون " إحسانا " وحجتهم قوله تعالى في سورة ( الأنعام وبني إسرائيل ) : " وبالوالدين إحسانا " {[13831]} [ الأنعام : 151 ] وكذا هو في مصاحف الكوفة . وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت : " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا " {[13832]} [ العنكبوت : 8 ] ولم يختلفوا فيها . والحسن خلاف القبح . والإحسان خلاف الإساءة . والتوصية الأمر . وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت{[13833]} .
الثالثة- قوله تعالى : " حملته أمه كرها ووضعته كرها " أي بكره ومشقة . وقراءة العامة بفتح الكاف . واختاره أبو عبيد ، قال : وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " {[13834]} [ البقرة : 216 ] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر . وقرأ الكوفيون " كرها " بالضم . قيل : هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد ، قاله الكسائي ، وكذلك هو عند جميع البصريين . وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما : إن الكره ( بالضم ) ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره ، أي قهرا وغضبا ، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها ( بفتح الكاف ) لحن .
الرابعة- قوله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " قال ابن عباس : إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا . وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقضي عليها بالحد ، فقال له علي رضي الله عنه : ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقال تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " [ البقرة : 233 ] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر ، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها . وقد مضى في " البقرة " {[13835]} . وقيل : لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل ، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به ، وهو معنى قوله تعالى : " فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به " {[13836]} [ الأعراف : 189 ] . والفصال الفطام . وقد تقدم في " لقمان " {[13837]} الكلام فيه . وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما " وفصله " بفتح الفاء وسكون الصاد . وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا ، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا . وفي الكلام إضمار ، أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا ، ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى .
الخامسة- قوله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده " قال ابن عباس : " أشده " ثماني عشرة سنة . وقال في رواية عطاء عنه : إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة ، وهم يريدون الشام للتجارة ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين . فقال الراهب : من الرجل الذي في ظل الشجرة ؟ فقال : ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب . فقال : هذا والله نبي ، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى . فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره . فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة ، صدق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة . فلما بلغ أربعين سنة قال : " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " الآية . وقال الشعبي وابن زيد : الأشد الحلم . وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين . وعنه قيام الحجة عليه . وقد مضى في " الأنعام " الكلام{[13838]} في الآية . وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص . وقد تقدم{[13839]} . وقال الحسن : هي مرسلة نزلت على العموم . والله أعلم .
السادسة- قوله تعالى : " قال رب أوزعني " أي ألهمني . " أن أشكر نعمتك " في موضع نصب على المصدر ، أي شكر نعمتك " علي " أي ما أنعمت به علي من الهداية " وعلى والدي " بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا . وقيل : أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة . وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره ، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده . ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم . وأمه أم الخير ، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد . وأم أبيه أبي قحافة " قيلة " " بالياء المعجمة باثنتين من تحتها " . وامرأة أبي بكر الصديق اسمها " قتيلة " " بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها " بنت عبد العزى . " وأن أعمل صالحا ترضاه " قال ابن عباس : فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من أصبح منكم اليوم صائما ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن تبع منكم اليوم جنازة ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال : [ فمن عاد منكم اليوم مريضا ] ؟ قال أبو بكر أنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ] .
السابعة- قوله تعالى : " وأصلح لي في ذريتي " أي اجعل ذريتي صالحين . قال ابن عباس : فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده . ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر . وقال سهل بن عبد الله : المعنى اجعلهم لي خلف صدق ، ولك عبيد حق . وقال أبو عثمان : اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك . وقال ابن عطاء : وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم . وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا . وقال مالك بن مقول : اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف ، فقال : استعن عليه بهذه الآية ، وتلا : " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين " . " إني تبت إليك " قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه . " وإني من المسلمين " أي المخلصين بالتوحيد .