ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ؛ والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ؛ فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد :
( إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) . .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ؛ فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ؛ لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر ، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله ، وهذا التميز في حديثه ، وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه ، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا : إنه من عند الله ، فما يمكن أن يقول هذا إنسان ، ولا خلق آخر من خلق الله .
وقوله { نحن أعلم بما يستمعون به } الآية ، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال ، أو بإعراض وتغافل واستخفاف ، فالضمير في { به } عائد على { ما } ، وهي بمعنى الذي ، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في { إذ } الأولى وفي المعطوفة عليها { يستمعون } الأول ، وقوله { وإذ هم نجوى } وصفهم بالمصدر ، كما قالوا : قوم رضى وعدل ، وقيل المراد بقوله : { وإذ هم نجوى } اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم ، وقوله { مسحوراً } الظاهر فيه أن يكون من السحر ، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم ، وأقواله الوخيمة برأيهم ، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه ، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم { به جنة } [ المؤمنون : 25 ] ونحو هذا ، وقال أبو عبيدة : { مسحوراً } معناه ذا سحر ، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري{[7585]} ومنه قولهم للجبان : انتفخ سحره ، لأن الفازع تنتفخ ريته ، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية ، قال : ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الوافر ]
ونسحر بالطعام وبالشراب{[7586]} . . . وقول لبيد : بالطويل ]
فإن تسألينا فيمَ نَحْنُ فإننا . . . عصافيرُ من هذا الأنام المسحَّر{[7587]}
ومنه السحور ، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر ، ويشبه أن يكون من السحر ، كالصبوح من الصباح ، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر ، بكسر السين ( . . . . . . ){[7588]} ، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له .
كان المشركون يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه ، مثل توحيد الله ، وإثبات البعث بعد الموت ، فيعجب بعضُهم بعضاً من ذلك ، فكان الإخبار عنهم بأنهم جُعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفوراً إذا ذكر الله وحده ، ويثير في نفس السامع سُؤالاً عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام ، فكانت هذه الآية جواباً عن ذلك السؤال . فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً .
وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونها . والمعنى : أنّ الله يعلم علماً حقاً داعي استماعهم ، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب .
« وأعلَم » اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله . وليس المراد أن الله أشد علماً من غيره إذ لا يقتضيه المقام .
والباء في قوله : { بما يستمعون } لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنّه قاصر عن التعدية إلى المفعول . واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يُعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام . يقال : هو أعظَى للدراهم .
والباء في { يستمعون به } للملابسة . والضمير المجرور بالباء عائد إلى ( ما ) الموصولة ، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال . والتقدير : متلبسين به .
وبيان إبْهام ( ما ) حاصل بقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } .
و ( إذ ) ظرف ل { يستمعون به } .
والنجوى : اسم مصدر المناجاة ، وهي المحادثة سِراً . وتقدم في قوله : { لا خير في كثير من نجواهم } في سورة { النساء : 114 ] .
وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغُلاً عنه .
وإذ هم نجوى } عطف على { إذ يستمعون إليك } ، أي نحن أعلم بالّذي يستمعونه ، ونحْن أعلم بنجواهم .
و { إذ يقول } بَدل من { إذ هم نجوى } بدل بعض من كل ، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القوْل . وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشدّ غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى الله عليه وسلم وبين حال المسحور .
ووقع إظهار في مقام الإضمار في { إذ يقول الظالمون } دون : إذ يقولون ، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم ، أي الشرك فإن الشرك ظلم ، أي ولولا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور . ويجوز أن يراد الظلم أيضاً الاعتداء ، أي الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.