وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
( وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .
وأي اصطفاء ؟ ! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة ، كما تلقاها أول هذه الخليقة : " آدم " ؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة ، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله ! !
وهنا تظهر عظمة هذا الدين ؛ ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على " نساء العالمين " بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم ، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !
أي صدق ؟ وآية عظمة ؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين ، وصدق صاحبه الأمين !
إنه يتلقى " الحق " من ربه ؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام ؛ فيعلن هذا الحق ، في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !
{ وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } كلموها شفاها كرامة لها ، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } . وقيل ألهموها ، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء . والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات السنية كالوالد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين .
عطف على جملة { إذْ قالت امرأةُ فرعون } . انتقال من ذِكر أمّ مريم إلى ذكر مريم .
ومريم عَلَم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمِّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدىء فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج .
والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة : قلت لزِير لَمْ تصله مريمهْ .
( والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء ) وقال في « الكشاف » : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة .
وتكرّر فعل { اصطفاك } لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي ، وهو جعلها منزّهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير . فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق . وعدُيّ الثاني . ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة . وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.