البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

{ وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك } لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئاً استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلهاً ، فذكر ولادته .

وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلاَّ ومعه جماعة من الملائكة وقيل : جبريل وحده .

وقرأ ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن .

والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا ، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى . انتهى .

يعني : بالارهاص التقدّم ، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة ، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي .

{ وطهرك } التطهير هنا من الحيض ، قاله ابن عباس قال السدي : وكانت مريم لا تحيض .

وقال قوم : من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس : من مس الرجال وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضاً : من الريب والشكوك .

{ واصطفاك على نساء العالمين } قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين .

وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء .

انتهى .

وهو كلام حسن ، ويكون : نساء العالمين ، على قوله عاماً ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل : هو خدمة البيت وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل : سلامتها من نخس الشيطان وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها ، وكان زكريا يسمع ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأناً .

والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً ، قاله ابن جريج .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خير نساء الجنة مريم بنت عمران » وروي : « خير نسائها مريم بنت عمران » وروي : « خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » وروي : « فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين » وروي : أنها من الكاملات من النساء .

وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

/خ44