إن شئت جعلتَ " إذ " نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله :
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] ، وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر ، قاله أبو البقاء .
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } ، - دون تاء تأنيث{[5403]} ، وتقدم توجيهه في " فناداه الملائكة " - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب " إنَّ " - من قوله : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ } - وكرر الاصطفاء ؛ رَفْعاً من شأنها .
قال الزمخشريُّ : " اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ ، وربَّاكِ ، واختصك بالكرامة السنية ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين ، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء " .
واصطفى : " افتعل " من الصفوة أبدلت التاء طاءً ؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة ، وتقدم سبب تعديه ب " على " وإن كان أصل تعديته بمن .
وقال أبو البقاء : " وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم " .
وقال الواحديُّ : " وكرَّر الاصطفاء ؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما ، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ ، والثاني : اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها " .
المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] يعني : جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر ؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ ؛ لقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ]
اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى ، وإنما المدَّعَى هو النبوة ، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً ، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى ، والإرهاص : هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة .
وقال بعضهم : إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع ، والإلهام ، والإلقاء في القلب ، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله :
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى } [ القصص : 7 ]
قيل : المرادُ بالاصطفاء الأول أمور :
أحدها : أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها .
وثانيها : قال الحسنُ : إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ .
وثالثها : أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته ، وكفاها أمر رِزقها .
ورابعها : أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً ، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها .
أحدها : أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية ، كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] .
وثانيها : طهرها عن مسيس الرجال .
وثالثها : طهرها عن الحيض والنفاس .
ورابعها : طهرها عن الأفعال الخسيسة .
وخامسها : طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم .
وأما الاصطفاء الثاني ، فالمراد منه :
أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب ،
وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة ،
وقال علي - رضي الله عنه - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ{[5404]} " رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض .
وعن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران ، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ {[5405]} " .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ : مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ{[5406]} " .
وقيل : دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء ، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ . وقَول مَنْ قال : " المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها ، فهذا تَركٌ للظاهر . وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة ، ثُمَّ خَدِيْجَةُ ، ثُمَّ آسيَةُ{[5407]} " حديث حسن .
قال القرطبي : خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء ؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها ، وظهر لها ونفخ في دِرْعها ، ودنا منها للنفخة ، وليس هذا لأحد من النساء ، وصدَّقت بكلمات ربِّها ، ولم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية ، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله : صِدِّيقةً ، قال " وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ " وقال : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى ، وشهد لها بالقنوت ؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه ، وعقم رحم امرأته فقال : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ، فسأل آية . وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ، ولم يَمْسَسْها بَشَر ، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك ، وصدَّقت بكلمات ربها ، ولم تسأل آية ، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب ؟
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.