اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

إن شئت جعلتَ " إذ " نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله :

{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] ، وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر ، قاله أبو البقاء .

وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } ، - دون تاء تأنيث{[5403]} ، وتقدم توجيهه في " فناداه الملائكة " - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب " إنَّ " - من قوله : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ } - وكرر الاصطفاء ؛ رَفْعاً من شأنها .

قال الزمخشريُّ : " اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ ، وربَّاكِ ، واختصك بالكرامة السنية ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين ، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء " .

واصطفى : " افتعل " من الصفوة أبدلت التاء طاءً ؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة ، وتقدم سبب تعديه ب " على " وإن كان أصل تعديته بمن .

وقال أبو البقاء : " وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم " .

وقال الواحديُّ : " وكرَّر الاصطفاء ؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما ، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ ، والثاني : اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها " .

فصل

المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] يعني : جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر ؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ ؛ لقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ]

فصل

اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى ، وإنما المدَّعَى هو النبوة ، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً ، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى ، والإرهاص : هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة .

وقال بعضهم : إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع ، والإلهام ، والإلقاء في القلب ، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله :

{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى } [ القصص : 7 ]

فصل

قيل : المرادُ بالاصطفاء الأول أمور :

أحدها : أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها .

وثانيها : قال الحسنُ : إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ .

وثالثها : أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته ، وكفاها أمر رِزقها .

ورابعها : أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً ، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها .

فصل

وفي التطهير أيضاً وجوه :

أحدها : أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية ، كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] .

وثانيها : طهرها عن مسيس الرجال .

وثالثها : طهرها عن الحيض والنفاس .

ورابعها : طهرها عن الأفعال الخسيسة .

وخامسها : طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم .

وأما الاصطفاء الثاني ، فالمراد منه :

أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب ،

وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة ،

وجعلها وابنها آية للعالمين .

وقال علي - رضي الله عنه - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ{[5404]} " رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض .

وعن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران ، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ {[5405]} " .

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ : مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ{[5406]} " .

وقيل : دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء ، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ . وقَول مَنْ قال : " المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها ، فهذا تَركٌ للظاهر . وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة ، ثُمَّ خَدِيْجَةُ ، ثُمَّ آسيَةُ{[5407]} " حديث حسن .

قال القرطبي : خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء ؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها ، وظهر لها ونفخ في دِرْعها ، ودنا منها للنفخة ، وليس هذا لأحد من النساء ، وصدَّقت بكلمات ربِّها ، ولم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية ، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله : صِدِّيقةً ، قال " وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ " وقال : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى ، وشهد لها بالقنوت ؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه ، وعقم رحم امرأته فقال : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ، فسأل آية . وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ، ولم يَمْسَسْها بَشَر ، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك ، وصدَّقت بكلمات ربها ، ولم تسأل آية ، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب ؟


[5403]:انظر: المحرر الوجيز 1/433، والبحر المحيط 2/476، والدر المصون 2/91.
[5404]:أخرجه البخاري (7/165) كتاب مناقب الأنصار: باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم (3815) ومسلم (4/1886) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل خديجة (69- 2430) والترمذي (5/659) كتاب المناقب باب فضل خديجة (3877) وأحمد (1/45، 116، 132، 143) والبيهقي (9/367) والبغوي في "شرح السنة" (7/3277) عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
[5405]:أخرجه البخاري (7/133) كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (3768) ومسلم ((4/1886) كتاب فضائل الصحابة باب فضل خديجة (70- 2431) والترمذي (4/242) كتاب الأطعمة باب فضل الثريد (1834) وابن ماجه (3280) وأحمد (4/394،/ 409) والبغوي (7/264) وابن أبي شيبة (12/128) وأبو نعيم في "الحلية" (5/99).
[5406]:أخرجه الترمذي (5/660) كتاب المناقب باب فضل خديجة (3878) وأحمد (3/135) والحاكم (3/157) وعبد الرزاق (20919) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/50) والبغوي في "شرح السنة" (7/230) وأبو نعيم في "الحلية" (2/344) والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (36).
[5407]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/42) وعزاه لابن عساكر وينظر كنز العمال 12/143- 145.