( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) . .
فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله . لا من قوتكم في الأرض ، ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء .
( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) . .
وأين من دون الله الولي والنصير ? أين الولي والنصير من الناس ? أو من الملائكة والجن ? وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا ?
عطف على جملة { وإليه تقلبون } [ العنكبوت : 21 ] باعتبار ما تضمنته من الوعيد .
والمعجز حقيقته : هو الذي يجعل غيره عاجزاً عن فعل ما ، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى { إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } في سورة [ الأنعام : 134 ] .
فالمعنى : وما أنتم بمُفْلَتين من العذاب . ومفعول ( معجزين ) محذوف للعلم به ، أي بمعجزين الله .
ويتعلق قوله { في الأرض } { بمعجزين } ، أي ليس لكم انفلات في الأرض ، أي لا تجدون موئلاً ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها ، وبدْوِها وحضرها .
وعطف { ولا في السماء } على { في الأرض } احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء . وهذا كقول الأعشى :
فلو كنتَ في جبّ ثمانين قامة *** ورُقِّيت أسبابَ السماء بسلّم
ومنه قوله تعالى { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ : 22 ] ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية سورة [ الشورى : 30 ، 31 ] { ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لأن تلك الآية جمعت خطاباً للمسلمين والمشركين بقوله { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] إذ العفو عن المسلمين . وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سُلْمي الضبي :
ولو طار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
وهي أظهر في قوله تعالى { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] . وفي هذه إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير الوعيد الذي تُوعدوه في الدنيا .
ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة ، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أنتم بمعجزين} يعني: كفار مكة بمعجزين، يعني: بسابقين الله عز وجل فتفوتوه، {في الأرض} كنتم، {ولا في السماء}، كنتم أينما كنتم حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة، {وما لكم من دون الله من ولي} يعني: من قريب لينفعكم، {ولا نصير} يعني: ولا مانع يمنعكم من الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما قوله:"وَما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السّماءِ" فإن ابن زيد قال في ذلك...: لا يُعجزه أهل الأرضين في الأرضين ولا أهل السموات في السموات إن عصوه، وقرأ: "مثقالُ ذَرّةٍ في السّموات ولا فِي الأرض، وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ ولا أكْبَرُ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ"...
وقوله: "وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَليّ وَلا نَصِيرٍ "يقول: وما كان لكم أيها الناس من دون الله من وليّ يلي أموركم، ولا نصير ينصركم من الله إن أراد بكم سوءا ولا يمنعكم منه إن أحلّ بكم عقوبتَه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما أنتم بمعجزين في الأرض} هم يعلمون؛ أعني الكفرة، أنهم لا يعجزون الله، ولا يقدرون على إعجازه، لكنه يذكر أنهم كانوا يعملون عمل من هو معجز فائت عن عذاب الله ونقمته، وهو كقوله: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} [الحج: 51] هم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يسعوا في آياته معاجزين، لكنهم يسعون في دفع آياته والإنكار لها سعي معاجز لها لا سعي خاضع قابل. فعلى ذلك الأول...
{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} أي مالكم من دون الله ما طمعتم من النصر لكم والشفاعة، وليس لكم. ذلك لأنهم عبدوا تلك الأصنام لما طمعوا شفاعتها عند الله لهم والزلفى بقوله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} {كلا} [مريم: 81 و: 82]...فيقول: ما لكم مما طمعتم بعبادتكم تلك الأصنام من ولي ولا نصير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الولي هو الذي يتولى المعونة بنفسه، والنصير قد يدفع المكروه عن غيره تارة بنفسه وتارة بأن يأمر بذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه {فِي الأرض} الفسيحة {وَلاَ فِي السماء} التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33]، وقيل: ولا من في السماء...
ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء "ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير".
إحداها: هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع، وذكر الله القسمين فقال: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه، أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال، فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز لا بالهروب ولا بالثبات.
الثانية: قال: {وما أنتم بمعجزين} ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل، وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية، فإن من قال إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط.
الثالثة: قدم الأرض على السماء، والولي على النصير، لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء، وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره، والشفاعة أجمل. ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما لم يبق للقدرة على إعادتهم مانع يدعى إلا ممانعتهم منها، أبطلها على تقدير ادعائهم لها فقال: {وما أنتم} أي أجمعون العرب وغيرهم {بمعجزين} أي بواقع إعجازكم في بعثكم وتعذيبكم {في الأرض} كيفما تقلبتم في ظاهرها وباطنها. ولما كان الكلام هنا له أتم نظر إلى ما بعد البعث، وكانت الأحوال هناك خارجة عما يستقل به العقل، وكان أثر القدرة أتم وأكمل، وأهم وأشمل، وكان بعض الأرواح يكون في السماء بعد الموت قال: {ولا في السماء} أي لو فرض انكم وصلتم إليها بعد الموت بالحشر أو قبله، لأن الكل بعض ملكه، فكيف يعجزه من في ملكه، ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمرود في بنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبلها ومن بعدها. ولما أخبرهم أنهم مقدور عليهم، وكان ربما بقي احتمال أن غيرهم ينصرهم، صرح بنفيه فقال: {وما لكم} أي أجمعين أنتم وغيركم أيها المحشورون، وأشار إلى سفول رتبة كل ما سواه بقوله: {من دون الله} أي الذي هو أعظم من كل عظيم؛ وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ولي} أي قريب يحميكم لأجل القرابة {ولا نصير} لشيء غير ذلك لأنه لا كفوء له.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله. لا من قوتكم في الأرض، ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء.
لم ينف عنهم الفعل حتى لا نتوهم إمكانية حدوثه منهم، فالهرب والافلات من لقاء الله في الآخرة أمر غير وارد على الذهن أصلا، إنما نفى عنهم الوصف من أساسه {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء}... وهكذا نفى عنهم القدرة على الإعجاز، ونفى عنهم الولي والنصير، لكن ذكر {من دون الله} يعني: من الممكن أن يكون لهم ولي ونصير من الله تعالى، فإن أرادوا الولي الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي، فأنا وليهم وأنا نصيرهم. وكأنه سبحانه يقول لهم: إن تبتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم، فأنا وليكم وأنا نصيركم. وفي موضع آخر قال: {وما لكم من ناصرين} [العنكبوت 25] ولم يقل من دون الله؛ لأن الموقف في الآخرة، والآخرة لا توبة فيها ولا اعتذار ولا رجوع، فقوله {من دون الله} لا تكون إلا في الدنيا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير... فليس الأمر كذلك! (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء).
وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير).
وفي الحقيقة، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه، إمّا بأن تخرجوا من حكومته، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم، فلا الخروج ممكن، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع، ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.
أوّلا: مع الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين، وهم سكنة الأرض، فما معنى قوله تعالى: (ولا في السماء) وأي مفهوم له هنا؟!
وينبغي أن يقال في الجواب، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض، ولا في السماوات، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء، فمازلتم تحت قدرته و سلطانه.
أو إنّه: لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة طبعاً)