اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (22)

{ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء ، قال الفراء{[41246]} معناه : ولا من في السماء بمعجز ( أنْ عَصَى ){[41247]} كقول حَسَّانَ :

4028 - فَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ *** ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ{[41248]}

أراد : ومن يمدحه وينصره ، فأضمر «مَن » يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء يعني ( على ){[41249]} أن { من في السموات } عطف على «أنتم » بتقدير : أن يعصي ، قال الفراء : وهو من غوامض العربية{[41250]} . قال شهاب الدين : وهذا على أصله ، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ ، ويبقى صفته{[41251]} .

قال قطرب{[41252]} : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم{[41253]} فيها ، كقول القائل : ( لا ) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض }{[41254]} ، أي على تقدير أن يكونوا فيها ، وأبعد من ذلك من قدره موصولين{[41255]} محذوفين ؛ أي ){[41256]} وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجن والإنس ، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها ( و ) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أي فائتين ما يريد{[41257]} الله بكم .

فصل :

اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه ، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال : { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } ، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء ، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض ( لم ){[41258]} تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ - ، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد{[41259]} إلى ركن شديد يشفع ، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب ، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه ، وكلاهما محال فلهذا قال : { وما لكم من دون الله من ولي } يشفع { ولا نصير } يدفع . فإن قيل : ما الحكمة في قوله : { وما أنتم بمعجزين } ولم يقل : «ولا تعجزون » بصيغة الفعل ؟ .

فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال : إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه أنه ليس بخائط ، وقدم «الأرض » على «السماء » ، و «الولي » على «النصير » ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة{[41260]} ، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ، وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك{[41261]} قدم الأرض على السماء ، والولي على النَّصِير{[41262]} .


[41246]:انظر: معاني القرآن للفراء 2/315.
[41247]:ما بين القوسين ساقط من كتاب الفراء نفسه ومثبت في كلتا النسختين وفي البحر والدر المصون، انظر البحر المحيط 7/147، والدر المصون 4/300.
[41248]:البيت لحسان بن ثابت- رضي الله عنه- يرد به على الزِّبعري وغيره من شعراء قريش، وهو من تمام الوافر وشاهده في قوله: "ويمدحه" حيث حذف الموصول الاسمي من "يمدحه" وأبقى صلته على رأي الفراء والكوفيين. وبرواية: "أمن" وقد تقدم.
[41249]:زيادة من ب.
[41250]:انظر: معاني الفراء 2/315.
[41251]:انظر الدر المصون 4/300.
[41252]:قطرب: محمد بن علي بن المستنير، أبو علي النحوي المعروف، لازم سيبويه، وكان يدلج الليل أخذ عن عيسى بن عمر، له من التصانيف المثلث، النوادر، الصفات، مات سنة 206 هـ، انظر: بغية الوعاة 1/242.
[41253]:انظر: تفسير القرطبي 13/337.
[41254]:[الرحمن سبحانه وتعالى: 33].
[41255]:انظر: البحر المحيط 7/47، والدر المصون 4/301.
[41256]:زيادة يقتضيها السياق من ب.
[41257]:في ب: مما يريد الله بكم.
[41258]:زيادة يقتضيها السياق من ب.
[41259]:في ب: بالإسناد.
[41260]:في ب: فإن حمل الطرق فيه بالشفاعة.
[41261]:في ب: فكذلك.
[41262]:انظر: تفسير الفخر الرازي 25/49.