ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو ؟ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء ؟
إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها . الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورا . الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء ، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه :
( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والمن عنصر كريه لئيم ، وشعور خسيس واط . فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاءالكاذب ، أو رغبة في إذلال الآخذ ، أو رغبة في لفت أنظار الناس . فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء . . وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب ، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن . . فالمن - من ثم - يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء . أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ؛ ورغبة في رؤية أخيه ذليلا له كسيرا لديه ؛ وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله . . وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام ، ومن رد فعل بالحقد والانتقام . . وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة ، وملء البطن ، وتلافي الحاجة . . كلا ! إنما أراده تهذيبا وتزكية وتطهيرا لنفس المعطي ؛ واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية ؛ وتذكيرا له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة ، وأن ينفق منها ( في سبيل الله ) في غير منع ولا من . كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ ، وتوثيقا لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية ؛ وسدا لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها . والمن يذهب بهذا كله ، ويحيل الإنفاق سما ونارا . فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان . هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق ، ويمزق المجتمع ، ويثير السخائم والأحقاد .
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام !
وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ؛ ويظل هذا الشعور يحز في نفسه ؛ فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه واضمار العداوة له ؛ لأنه يشعر دائما بضعفه ونقصه تجاهه ؛ ولأن المعطي يريد منه دائما أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه ! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء !
وقد يكون هذ كله صحيحا في المجتمعات الجاهلية - وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام - أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر . عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله ؛ وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله . . وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق البعيدة والقريبة ، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء . وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء . وكلها ليست في مقدور الإنسان . . وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء . . فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى ؛ وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة . وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله ! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها ، توكيدا لهذا المعنى في النفوس ، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ . فكلاهما آكل من رزق الله . وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله ؛ متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم ، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه :
من فقر ولا من حقد ولا من غبن . .
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من{[4419]} أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : [ على ]{[4420]} ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها{[4421]} لا يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 )
وقوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم } الآية ، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه مناً ولا أذى( {[2575]} ) ، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه ، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه( {[2576]} ) ، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه ، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه ، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى ، وإما أن ينفق مضطراً دافع غرم إما لماتة( {[2577]} ) للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه ، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله ، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى .
فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد ، وأنه لم يخلص لوجه الله ، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة ، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة ، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال مكي في عثمان وابن عوف( {[2578]} ) رضي الله عنهما : والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ، والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المنّ ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم . قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا القول نظر ، لأن التحكم فيه باد( {[2579]} ) ، وقال زيد بن أسلم : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً ، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه ، فإن عندي أسهماً وجعبة( {[2580]} ) ، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم . وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه ، لأنه يغتبط بآخرته .
أعاد قوله : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } إظهاراً للاهتمام بهذه الصلة . وقوله : { ثم لا يتبعون } جاء في عطفه بشم مع أنّ الظاهر أن يعطف بالواو ، قال في « الكشاف » : « لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وإنّ تركهما خير من نفس الإنفاق » ؛ يعني أنّ ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة الزمنية ترفيعاً لرتبة ترك المنّ والأذى على رتبة الصدقة ؛ لأنّ العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحبّ المحمدة فللنفوس حظّ فيه مع حظّ المعطَى ، بخلاف ترك المنّ والأذى فلا حظ فيه لِنفس المعطي ؛ فإنّ الأكثر يميلون إلى التبجّح والتطاول على المعطَى ، فالمهلة في ( ثم ) هنا مجازية ؛ إذ شُبِّه حصول الشيء المهم في عزّة حصوله بحصول الشيء المتأخّر زمنه ، وكأنّ الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنّه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأنّ المراد حصول الإنفاق وترك المنّ معاً .
والمنّ أصله الإنعام والفضل ، يقال مَنّ عليه مَنَّا ، ثم أطلق على عدّ الإنعام على المنعَم عليه ، ومنه قوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } [ المدثر : 6 ] ، وَهو إذا ذُكر بعد الصدقة والعطاء تعيّن للمعنى الثاني .
وإنّما يكون المنّ في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق ، وبالتطاول على المجاهدين الذين يُجَهِّزهم أو يَحْملهم ، وليس من المنّ التمدّح بمواقف المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومِه ، فقد قال الحُريش بن هلال القريعي يذكر خَيْله في غزوة فتح مكة ويوم حنين :
شَهِدنَ مع النبي مُسَوّمَاتٍ *** حُنينا وهْيَ دَاميَةُ الحَوامِي
ووقْعَةَ خالدٍ شَهِدَت وحَكَّتْ *** سَنَابِكَها علَى البَلَد الحَرَامِ
وقال عباس بن مرداس يتمدّح بمواقع قومه في غزوة حنين :
حَتَّى إذا قال النبيءُ محمــدٌ *** أبَنِي سُلَيْمٍ قَـدْ وَفَيْتُم فأرجِعوا
عُدْنَا ولَوْلاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعَهُمْ *** بالمُسْلمين وأحرَزُوا مَا جَمَّعوا
والأذى هو أن يؤذي المنفِق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة :
عليّ لِعمروٍ نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب
فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مراداً به نصر الدين ولا حظّ للنفس فيه ، فذلك هو أعلى درجات الإنفاق وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل ، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها .