44- لم نُعجل عقاب هؤلاء بكفرهم ، بل استدرجناهم ومتّعناهم في الحياة الدنيا كما متعنا آباءهم قبلهم حتى طال عليهم العمر . أيتعامون عما حولهم فلا يرون أنا نقصد الأرض فننقصها من أطرافها بالفتح ونصر المؤمنين ؟ ! أفهم الغالبون ، أم المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد ؟ {[131]} .
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل . . يضرب السياق عن مجادلتهم ؛ ويكشف عن علة لجاجتهم ؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب ، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة ، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين ، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير ، بعد السعة والمنعة والسلطان !
( بل متعنا هؤلاء وآباؤهم حتى طال عليهم العمر . أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? أفهم الغالبون ? ) . .
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم . والمتاع ترف . والترف يفسد القلب ويبلد الحس . وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله ، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته . وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها ، ويصلها دائما بالله ، فلا تنساه .
ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص . فإذا هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات . وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة . وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة . قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات . .
والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد . . . فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة ، وفيه الرهبة المخيفة !
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال ، أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا ، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء .
ثم قال واعظًا لهم : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة " الرعد " ، وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الاحقاف : 27 ] .
وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر .
والمعنى : أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة ، وإنجائه لعباده المؤمنين ؛ ولهذا قال : { أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } يعني : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون .
ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي البشر بحسب الخلاف والأطراف ، والرؤية في قوله { يرون } رؤية العين تتبعها رؤية القلب ، و { نأتي } معناه بالقدرة والبأس ، و { الأرض } عامة في الجنس . وقوله { من أطرافها } إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض ، وقال قوم النقص من الأطراف موت العلماء ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بين بل هم مغلوبون مقهورون .
{ بل متعنا هؤلاء وءاباءهم حتى طال عليهم العمر }
والإشارة ب { هؤلاء } لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش .
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش .
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون }
تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ الأنبياء : 38 ] تهكماً وتكذيباً . فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار } إلى قوله تعالى : { ما كانوا به يستهزئون } [ الأنبياء : 3941 ] فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته .
والرؤية علمية ، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر ، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها ، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة ، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد ، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى ، وكفى بذلك دليلاً على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل { نأتي } .
فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ النحل : 26 ] .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [ سورة يوسف : 80 ] { فلن أبرح الأرض } أي أرضَ مصر .
والأطراف : جمع طَرف بفتح الطاء والراء . وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته ، وضده الوسط .
والمراد بنقصان الأرض : نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين ، والقرينة المشاهدة .
والمراد : نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة ، ومن هاجر منهم إلى الحبشة ، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية ، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين . وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد .
وجملة { أفَهمُ الغالبون } مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة . والاستفهام إنكاري ، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم .
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى : { أفهم الغالبون } دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر ، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون ، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص ، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم .