140- وقد نزَّل الله عليكم في القرآن الكريم أنكم كلما سمعتم آية من الكتاب ، وجحد بها الكافرون ، فلا تقعدوا معهم حتى ينتقلوا إلى حديث غير حديث الاستهزاء ، وإنكم إن لم تفعلوا وسمعتم استهزاءهم كنتم مثلهم في الاستهزاء بالقرآن ، وإن العاقبة وخيمة على الكافرين والمنافقين ، فإن الله جامعهم جميعاً في النار يوم القيامة .
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فيسكت ويتغاضى . . يسمي ذلك تسامحا ، أو يسميه دهاء ، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي ! ! ! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله ؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق ، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان !
إن الحمية لله ، ولدين الله ، ولآيات الله . هي آية الإيمان . وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد ؛ وينزاح بعدها كل حاجز ، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار . وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا . ثم تهمد . ثم تخمد . ثم تموت !
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس ، فإما أن يدفع ، وإما أن يقاطع المجلس وأهله . فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة . وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق !
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ . وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة . . حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها ، هو أولى مراحل الهزيمة . وأراد أن يجنبهم إياها . . ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا . فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها . . . وإلا فهو النفاق . . وهو المصير المفزع ، مصير المنافقين والكافرين :
وقد نزل عليكم في الكتاب : أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فلا تقعدوا معهم ، حتى يخوضوا في حديث غيره . إنكم إذا مثلهم . إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا . . .
والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية - ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) . .
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن :
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد :
إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا . .
ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها ، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين ، يشي - كما أسلفنا - بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة - إذ ذاك - والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى - كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا ؛ ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع . . في عالم الواقع . . مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع !
وقوله [ تعالى ]{[8475]} { وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } أي : إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك ، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه . فلهذا قال تعالى : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [ أي ]{[8476]} في المأثم ، كما جاء في الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر " {[8477]} .
والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في{[8478]} ذلك ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] {[8479]} } [ الأنعام : 68 ] قال مقاتل بن حيان : نَسَخَت هذه الآية التي في الأنعام . يعني نُسخَ قوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } لقوله { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 69 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } أي : كما أشركوهم{[8480]} في الكفر ، كذلك شارك الله بينهم{[8481]} في الخلود في نار جهنم أبدا ، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال ، والقيود والأغلال . وشراب{[8482]} الحميم والغِسْلين لا الزّلال .
{ وقد نزل عليكم في الكتاب } يعني القرآن . وقرأ عاصم { نزل } وقرأ الباقون { نزل } على البناء للمفعول والقائم مقام فاعله . { أن إذا سمعتم آيات الله } وهي المخففة والمعنى أنه إذا سمعتم . { يكفر بها ويستهزأ بها } حالان من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله : { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئا معاندا غير مرجو ، ويؤيده الغاية . وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكة من قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } الآية . والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها . { إنكم إذا مثلهم في الإثم لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم ، أو الكفر إن رضيتم بذلك ، أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين ، ويدل عليه : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } يعني القاعدين والمقعود معهم ، وإذا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل وإفراد مثلهم ، لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع . وقرئ بالفتح على البناء لإضافته إلى مبني كقوله تعالى : { مثل ما أنكم تنطقون } .
جملة { وقد نزّل عليكم في الكتاب } الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة { بشرّ المنافقين } تذكيراً للمسلمين بما كانوا أعلموا به ممّا يؤكّد التحذير من مخالطتهم ، فضمير الخطاب موجّه إلى المؤمنين ، وضمائر الغيبة إلى المنافقين ، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير ( يتّخذون ) ، فيكون ضمير الخطاب في قوله : { وقد نزّل عليكم } خطاباً لأصحاب الصلة من قوله : { الذين يتّخذون الكافرين أولياء } [ النساء : 139 ] على طريقة الالتفات ، كأنّهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معيّنين معروفين ، فالتُفت إليهم بالخطاب ، لأنّهم يعرفون أنّهم أصحاب تلك الصلة ، فلعلّهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين . وعليه فضمير الخطاب للمنافقين ، وضمائر الغيبة للكافرين ، والذي نزّل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن : في شأن كفر الكافرين والمنافقين واستهزائهم .
قال المفسّرون : إنّ الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة ( 68 ) الأنعام : { وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعْرِضْ عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره } لأنّ شأن الكافرين يَسري إلى الذين يتخذونهم أولياء ، والظاهر أنّ الذي أحال الله عليه هو ما تكرّر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مشتهزءون } ممّا حصل من مجموعه تقرر هذا المعنى .
و ( أنْ ) في قوله : { أنْ إذا سمعتم } تفسيرية ، لأنّ ( نُزّل ) تضمّن معنى الكلام دون حروف القول ، إذ لم يقصد حكاية لفظ ( ما نُزّل ) بل حاصل معناه . وجعَلها بعضهم مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوفاً ، وهو بعيد .
وإسناد الفعلين : { يُكْفَر } و { يستهزأ } إلى المجهول لتتأتّى ، بحذف الفاعل ، صلاحية إسناد الفعلين إلى الكافرين والمنافقين . وفيه إيماء إلى أنّ المنافقين يركنون إلى المشركين واليهود لأنّهم يكفرون بالآيات ويستهزئون ، فتنثلج لذلك نفوس المنافقين ، لأنّ المنافقين لا يستطيعون أن يتظاهروا بذلك للمسلمين فيشفي غليلَهم أن يسمع المسلمون ذلك من الكفّار .
وقد جعل زمان كفرهم واستهزائهم هو زمن سماع المؤمنين آيات الله . والمقصود أنّه زمن نزول آيات الله أو قراءة آيات الله ، فعدل عن ذلك إلى سماع المؤمنين ، ليشير إلى عجيب تضادُّ الحالين ، فلفي حالة اتّصاف المنافقين بالكفر باللَّه والهزل بآياته يتّصف المؤمنون بتلّقي آياته والإصغاء إليها وقصدِ الوعي لها والعمل بها .
وأعقب ذلك بتفريع النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتّى ينتقلوا إلى غيرها ، لئلاّ يَتَوسّل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن ، لأنّ للأخلاق عَدْوى ، وفي المثل « تُعدي الصّحاحَ مَبَارِك الجُرْب » .
وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها . وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى : وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله : { تُلْقُونَ إليهم بالمودّة وقد كَفروا بما جاءكم من الحقّ } [ الممتحنة : 1 ] .
و ( حتّى ) حرف يعطف غاية الشيء عليه ، فالنهي عن القعود معهم غايته أم يكفّوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها .
وهذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين ، جُعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليَظهرَ التمايزُ بين المسلمين الخُلَّص وبين المنافقين ، ورخّص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر . ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكنُ تَرضَونَها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره } [ التوبة : 23 ، 24 ] .
وجعل جواب القُعود معهم المنهي عنه أنّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال : { إنَّكم إذَنْ مثلُهم } فإنِّ ( إذَنْ ) حرف جواب وجزاء لكلام مَلفوظ به أو مقدّر .
والمجازاة هنا لكلام مقدّر دلّ عليه النهي عن القعود معهم ؛ فإنّ التقدير : إن قعدتم معهم إذن إنّكم مثلهم . ووقوع إذن جزاء لكلام مقدّر شائع في كلام العرب كقول العنبري :
لو كنتُ من مَازن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذُهْلِ شَيْبَانا
إذَنْ لقام بنصري مَعْشَر خُشُن *** عند الحَفيظة إن ذُو لَوْثَة لاَنا
قال المرزوقي في « شرح الحماسة » : « وفائدة ( إذن ) هو أنّه أخرج البيت الثاني مَخرج جواب قائل له : ولو استباحوا مَاذا كان يَفعل بنو مازن ؟ فقال : إذن لقام بنصري معشر خشن » . قلت : ومنه قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتابَ المُبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . التقدير : فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتابَ المبطلون . فقد علم أنّ الجزاء في قوله : { إنّكم إذن مثلهم } عن المنهي عنه لا عن النهي ، كقول الراجز ، وهو من شواهد اللغة والنحو :
لاَ تَتْرُكَنِّي فيهم شَطِيرا *** أنّي إذَنْ أهْلِكَ أو أطِيرا
والظاهر أنّ فريقاً من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقُومون عنهم تَقيةً لهم فنُهوا عن ذلك . وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف ، ولا يصير المؤمن منافقاً بجلوسه إلى المنافقين ، وأرَيد المماثلة في المعصية لا في مقدارها ، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي .
وقوله : { إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنّم جميعاً } تحذير من أن يكونوا مثلهم ، وإعلام بأنّ الفريقين سواء في عدواة المؤمنين ، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى إظهارهم الإسلام لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
كان المنافقون يستهزءون بالقرآن، فأنزل الله عز وجل بالمدينة: {وقد نزل عليكم في الكتاب}: في سورة الأنعام بمكة، {أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}: حتى يكون حديثهم، يعني المنافقين في غير ذكر الله عز وجل، فنهى الله عز وجل عن مجالسة كفار مكة ومنافقي المدينة عند الاستهزاء بالقرآن، ثم خوفهم: إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم، {إنكم إذا مثلهم} في الكفر {إن الله جامع المنافقين} من أهل المدينة، {والكافرين} من أهل مكة {في جهنم جميعا}...
فرض الله على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يغضي عما نهى الله عنه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
بشر المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتابِ} يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن. {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها، وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيِرِه} يعني: بعد ما علموا نهى الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه، ويستهزئون بها، {حَتّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ} يعني بقوله: {يَخُوضوا}: يتحدّثوا حديثا غيره بأن لهم عذابا أليما. وقوله: {إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ} يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله، ويستهزَأ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كلّ نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم.
وبنحو ذلك كان جماعة من الأمة الماضية يقولون تأوّلاً منهم هذه الآية، إنه مراد بها النهي عن مشاهدة كلّ باطل عند خوض أهله فيه...
عن هشام بن عروة، قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب، فضربهم وفيهم صائم، فقالوا: إن هذا صائم! فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضوا فِي حَدِيثٍ غيرِه إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.
{إنّ اللّهَ جَامِعُ المُنافقينَ وَالكافرينَ فِي جَهَنّمَ}: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به أهله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} لأنهم كانوا معهم في السر والحقيقة، وإن كانوا يظهرون للمؤمنين الموافقة باللسان؛ فهذا يدل على أن الحقائق في العواقب هي ما يسر المرء ويضمر، ليست ما يظهر؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الظاهر في جميع الأحكام: في الأنكحة والعقود كلها وإظهار الإيمان لهم باللسان، لكنهم إذ أضمروا خلاف ما أظهروا لم ينفعهم...
قوله: {إنكم إذاً مثلهم} قد قيل فيه وجهان، أحدهما: في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر، والثاني: أنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم، والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفرٌ، ولكن من قعد معهم ساخطاً لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم. وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن مِنْ إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال هجرانُ أعداء الحقِّ فرضٌ، ومخالفة الأضداد ومفارقتهم دين، والركون إلى أصحاب الغفلة قَرْعُ بابِ الفرقة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
هذا إشارة إلى ما أنزل في سورة الأنعام (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم...). نهى عن القعود معهم، وما حكم القعود معهم؟ أما إذا قعد معهم... ورضى بما يخوضون فيه، فهو كافر مثلهم، وهو معنى قوله: (إنكم إذا مثلهم). وإن قعد، ولم يرض بما يخوضون فيه، فالأولى أن لا يقعد، ولكن لو قعد كارها، فلا يكفر، وهذا هو الحكم في كل بدعة يخاض فيها، فلو تركوا الخوض فيه وخاضوا في حديث غيره، فلا بأس بالقعود معهم وإن كره؛ لقوله (حتى يخوضوا في حديث غيره) قال الحسن: وإن خاضوا في حديث غيره لا يجوز القعود معهم؛ لقوله في سورة الأنعام: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) والأكثرون على أنه يجوز، وآية الأنعام مكية وهذه الآية مدنية، والمتأخر أولى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة من قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وذلك أن المشركين كانوا يخضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤون به، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين} يعني القاعدون والمقعود معهم.
فإن قلت: الضمير في قوله: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} إلى من يرجع؟ قلت: إلى من دل عليه {يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها.
فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر.
فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم.
من رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل هاهنا...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم. كما قال: (ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} قالوا: الخطاب عام لجميع من كان يظهر الإيمان من صادق ومنافق. والذي نزله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى في سورة الأنعام التي نزلت قبل هذه السورة لأنها مكية وهذه السورة مدنية {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام:68] نزلت هذه في مشركي مكة إذ كانوا يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم في هذه الحال ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم، وعدم الجلوس إليهم في هذه الحال. ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون لهم فنهى الله المؤمنين على الإطلاق عن ذلك. ومجموع الآيتين يدل على أن بعض ما كان يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم يراد به أمته ومعنى: {سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها} سمعتم الكلام الذي موضوعه جعل الآيات في موضع السخرية والاستهزاء الذي يراد به التحقير والتنفير، بمجرد السفه وقول الزور.
ويدخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع كما روي عن ابن عباس. قال في "فتح البيان في مقاصد القرآن ": وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى: قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه بكذا. وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا يألوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامه الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم، كما أوضح الشوكاني ذلك في "القول المفيد "" وأدب الطلب".اه.
ويا ليت هؤلاء الذين جعلوا كلام شيوخهم أصلا للدين والكتاب والسنة فرعين أو مهملين يتبعون الأئمة الذين يدعون الانتساب إليهم وهم لا يعرفون هديهم ولا يتبعونهم، وإنما يتبع كل أهل عصر شيوخهم على جهلهم.
{إنكم إذا مثلهم} هذا تعليل للنهي أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في كفرهم، لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به. ويؤخذ من الآية: أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه: أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضا. وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتما، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيرا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى.
{إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} هذا وعيد للفريقين المستهزئين من الكفار ولمقربيهم من المنافقين بأنهم سيجتمعون في العقاب كما اجتمعوا على الإثم وكذا غيرهم من الفريقين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى.. يسمي ذلك تسامحا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله؛ وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان!... فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله. فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة. وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!... [و] قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي -كما أسلفنا- بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة -إذ ذاك- والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى -كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا؛ ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع.. في عالم الواقع.. مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
[نهى] عن مجالستهم في تلك الحالة حتّى ينتقلوا إلى غيرها، لئلاّ يَتَوسّل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن، لأنّ للأخلاق عَدْوى... وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها. وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى: وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله: {تُلْقُونَ إليهم بالمودّة وقد كَفروا بما جاءكم من الحقّ} [الممتحنة: 1]...
و (حتّى) حرف يعطف غاية الشيء عليه، فالنهي عن القعود معهم غايته أن يكفّوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها... قال: {إنَّكم إذَنْ مثلُهم}... وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقاً بجلوسه إلى المنافقين، وأرَيد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الآية يستفاد منها فوائد: أولها: أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لا يقدم عليه مؤمن. وثانيها: أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم، لأن السكوت لا يخلو من رضا ولو كان جزئيا، ثالثها أن الشر يسري م؟؟ القائل إلى السامع كما يسري السم في الجسد، وكما يجري الشيطان في النفس...
بذلك يحمي الله وحده أهل الإيمان ويصونهم من أي تهجم عليهم فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا فما دمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان ومادمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقا لك وعقيدة فلتحم هذا الإيمان من أن يتهجم عليه أحد... [فــ] حين يرى الكافر مؤمنا يهب وينفر من أي حديث فيه سخرية من الإسلام، هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه... وكلمة "يخوضون "تعطي معنى واضحا مجسما، لأن الأصل في الخوض أن تدخل في مائع أي سائل، مثل الخوض في المياه أو الطين والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ إلى غاية. وساعة تخوض في مائع فالمائع لا ينفصل حتى يصير جزء هنا وجزء هناك ويفسح لك طريقا بل مجرد أن يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى، ولذلك يستحيل أن تصنع في المائع طريقا لك أما إذا دخل الإنسان في طريق رملي فهو يزيح الرمال أولا ويفسح لنفسه طريقا ولا تعود الرمال إلى سد الطريق إلا بفعل فاعل، وأخذوا من هذا المعنى وصف الأمر الباطل بأنه خوض. ذلك أن الباطل لا هدف له وهو مختلط ومرتبك والجدال في الباطل لا ينتهي إلى نتيجة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي ضوء ذلك، نفهم أن الإسلام لا يريد أن يفرض على المسلمين العزلة عن مجتمعات الكفر، لا سيّما إذا كانت لديهم مصالح ثقافية واقتصادية وأمنية تتصل بهم، ولكنه يريد لهم أن لا يواجهوا التحديات الكافرة بموقف ضعف واستسلام واستخذاءٍ، بل يريد لهم أن يعبّروا عن رفضهم لذلك بالطريقة المذكورة، وهي الخروج من المجلس باعتبار أنه أضعف الإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
النّهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها:
لقد ورد في الآية (68) من سورة الانعام أمر صريح إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يعرض عن أُناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحده بل يعتبر حكماً وأمراً عاماً يجب على جميع المسلمين اتّباعه، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وفلسفته جلية واضحة، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.
والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أُخرى، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إِذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره).
بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير اُولئك المستهزئين، تقول الآية: (إِنّكم إِذاً مثلهم).
ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإِن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: (إِنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً).
إِنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور:
-إِنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية، حتى لو بقي المشارك ساكتاً أو ساكناً و لم يشارك في الاستهزاء بنفسه، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.
- لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإِيجابي له، فلابدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية، مثل أن يبتعد الإِنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.
-إِنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية، إِنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.
- لا ضير من مجالسة الكفار إِن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإِلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطراً آخر، ويدل على إِباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية: (حتى يخوضوا في حديث غيره).
-إِنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إِنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية، دون أن يبدي اعتراضاً على هذه المعاصي، أو على الأقل أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.