93- إنما اللوم والعقاب على هؤلاء الذين يستأذنوك - أيها النبي - في تخلفهم عن الجهاد ، وهم واجدون المال والعتاد ، قادرون على الخروج معك ، لأنهم - مع قدرتهم واستطاعتهم - رضوا بأن يقعدوا مع النساء الضعيفات ، والشيوخ العاجزين ، والمرضى غير القادرين ، ولأن قلوبهم أغلقت عن الحق ، فهم لا يعلمون العاقبة الوخيمة التي تترتب على تخلفهم في الدنيا وفي الآخرة .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة التوبة - التي سبق الشطر الأكبر منها في الجزء العاشر - ومن سورة يونس . . وسنمضي أولاً مع بقية سورة التوبة : أما سورة يونس فسنعرف بها في موضعا من هذا الجزء إن شاء اللّه .
لقد جاء في الجزء العاشر عن سورة التوبة هذه الفقرات التي تكشف عن طبيعتها ؛ وعن الملابسات والظروف التي أحاطت بنزولها ؛ وعن أهميتها في بيان العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى ؛ وفي بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام أيضا :
" هذه السورة المدنية ، من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن - ومن ثم قد تضمنت أحكاماً نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض ؛ كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته ، وتحديد قيمه ومقاماته ، وأوضاع كل طائفة فيه ، وكل طبقة من طبقاته ؛ ووصف واقع هذا المجتمع بجملته ، وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفاً دقيقا مصورا مبينا .
" والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج ، وعن مدى حسمه كذلك . وبدون هذه المراجعة تختلط هذه الصور والأحكام والقواعد ؛ كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاماً مرحلية فجعلت نهائية ؛ ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية ؛ وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي ، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى . . . " . .
كذلك ذكرنا في تقديم السورة أنها ذات مقاطع - مع وحدة موضوعها وجوها وملابساتها - يتولى كل مقطع بيان الأحكام النهائية في موضوعه . . وقد تناول المقطع الأول منها بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة العربية . كما تناول المقطع الثاني بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين وأهل الكتاب عامة . ثم تولى المقطع الثالث النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز لغزوة تبوك - أي غزو أهل الكتاب المتجمعين على أطراف الجزيرة للانقضاض على الإسلام والمجتمع الإسلامي - كما تولى المقطع الرابع فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم ، ووصف أحوالهم النفسية والعملية ، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها ، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد ، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف المسلم ، وإيذاء رسول اللّه - [ ص ] - والخلص من المؤمنين .
يصاحب هذا الكشف تحذير الخلص من المؤمنين من كيد المنافقين ، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء ، والمفاصلة بين الفريقين ، وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . .
وهذه المقاطع الأربعة قد سيقت بجملتها في الجَزء العاشر . . إلا بقية في الحديث عن المتخلفين ، وعن حدود التبعة في التخلف عن الجهاد . .
ولقد كانت آخر آية في الجزء العاشر هي قوله تعالى :
( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، حرج إذا نصحوا للّه ورسوله . ما على المحسنين من سبيل ، واللّه غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ) .
أما التكملة التي يبدأ بها هذا الجزء فهي قوله تعالى :
( إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وطبع اللّه على قلوبهم ، فهم لا يعلمون . يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم . قل لا تعتذروا ، لن نؤمن لكم ، قد نبأنا اللّه من أخباركم ، وسيرى اللّه عملكم ورسوله ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون . سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ؛ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ، ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم ، فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين )
وقد كان هذا من إنباء اللّه - سبحانه - لنبيه - [ ص ] - عما سيكون من حال المنافقين المتخلفين وأعذارهم إذا رجع من الغزوة سالماً هو ومن معه من المسلمين الخلص ؛ وتوجيه له ولهم إلى ما يجب أن يجيبوهم به ، وما يجب أن يعاملوهم به كذلك .
بعد ذلك يجيء المقطع الخامس في السورة وهو يتولى تصنيف المجتمع المسلم بجملته في هذه الفترة - من الفتح إلى تبوك - ومنه نعلم - كما قلنا في تقديم السورة - أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والانصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى . . الأعراب ، وفيهم المخلصون والمنافقون . والمنافقون من أهل المدينة ، وآخرون خلطوا عملاَ صالحاً وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ، ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماماً . وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها ، متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها . ومتآمرون يتسترون باسم الإسلام ، ويدبرون المكائد ، ويتصلون بأعداء الإسلام في الخارج . . والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد ؛ وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم ؛ وتوجه رسول اللّه [ ص ] والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم في مثل هذه النصوص :
( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله . والله عليم حكيم . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ، ويتربص بكم الدوائر . عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم . ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم ، سيدخلهم الله في رحمته ، إن الله غفور رحيم ) . .
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم ) . .
( وممن حولكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ) . .
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا ، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم . . . ) .
( وآخرون مرجون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والله عليم حكيم ) . .
( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ؛ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدا ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطهرين ) . .
وسنحاول أن نتبين من هم المقصودون بكل فئة من هذه الفئات ، في ثنايا استعراض النصوص فيما بعد تفصيلا .
فأما المقطع السادس والأخير في السورة ، فيتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله سبحانه على الجهاد في سبيله ؛ وطبيعة هذا الجهاد وحدوده وكيفيته ؛ وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه . . كذلك يتضمن ضرورة المفاضلة الكاملة بين المسلمين ومن عداهم على أساس العقيدة وحدها ؛ وإقامة العلاقات بينهم وبين من عداهم على هذه الوشيجة دون سواها ؛ بما في ذلك أهلهم وقرابتهم وعشيرتهم . . ثم يتضمن بياناً لمصائر الذين تخلفوا عن الغزوة غير منافقين ولا متآمرين ؛ مع ذكر بعض أحوال المنافقين ومواقفهم المميزة لهم تجاه الأوامر القرآنية . . وذلك في مثل هذه النصوص :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده ، من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) .
( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، إن إبراهيم لأوّاه حليم ) .
( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم - ثم تاب عليهم ، إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن اللّه مع المتقين ) .
( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيماناً ? فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ، وماتوا وهم كافرون ) .
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا ، صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) . .
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول اللّه - [ ص ] - وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده ، والاكتفاء بكفالته سبحانه :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل : حسبي اللّه ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ) . .
وسنحاول بعد هذا الاستعراض السريع أن نواجه النصوص القرآنية الباقية في السورة بالتفصيل . . واللّه المعين . .
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا يجد لهم الرسول - [ ص ] - ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة . . من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة . . إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول اللّه - [ ص ] - في القعود وهم أغنياء قادرون ، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج . . إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور . .
هؤلاء هم المؤاخذون يتخلفهم عن الخروج ، والاستئذان في القعود ، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون ، ولا يؤدون حق اللّه عليهم وقد أغناهم وأقدرهم ؛ ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم ؛ ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم . . ومن ثم يختار اللّه - سبحانه - لهم هذا الوصف :
( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) . .
فهو سقوط الهمة ، وضعف العزيمة ، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد . . وهم معذورون . . فأما أولئك فما هم بمعذورين !
( وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون ) . .
فقد أغلق اللّه فيهم منافذ الشعور والعلم ، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك ، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم ، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب ! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة ، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة . وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر ، وتطبع على القلوب والعقول . والحركة دليل الحياة ، ومحرك في الوقت ذاته للحياة . ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل ، وتشد العضل ، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة ، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة . . وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة .
قوله في هذه الآية { إنما } ليس بحصر وإنما هي للمبالغة فيما يريد تقريره عل نحو ذلك إنما الشجاع عنترة ، ويقضي بذلك انَّا نجد السبيل في الشرع على غير هذه الفرقة موجوداً ، و { السبيل } قد توصل ب { على } و { إلى } فتقول لا سبيل على فلان ولا سبيل إلى فلان{[5835]} غير أن وصولها ب { على } يقتضي أحياناً ضعف{[5836]} المتوصل إليه وقلة منعته ، فلذلك حسنت في هذه الآية ، وليس ذلك في إلى ، ألا ترى أنك تقول فلان لا سبيل إلى الأمر ولا إلى طاعة الله ولا يحسن في شبه هذا على ، و { السبيل } في هذه الآية سبيل المعاقبة ، وهذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب وغيرهم ، وقد تقدم نظير تفسير الآية .
لما نفت الآيتان السابقتان أن يكون سبيلٌ على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة ، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء ، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعدُ { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } [ التوبة : 94 ] ، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نُفي أن يكون عليهم سبيل .
وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق ، أي لا سبيل عقابٍ إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء . والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله : { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله } [ التوبة : 86 ] الآية .
والسبيل : حقيقته الطريق . ومرّ في قوله : { مَا على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] . وقوله : { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة ، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يَتوصل بها من هي له إلى تنفيذ المؤاخذة في الغير . ولذلك عُدّي بحرف ( على ) المفيد لمعنى الاستعلاء ، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول ( على ) . فكان هذا التركيب استعارةً مكنية رُمز إليها بما هو من مُلائمات المشبه به وهو حرف ( على ) . وفيه استعارة تبعية .
والتعريف باللام في قوله : { إنما السبيل } تعريف العهد ، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة ، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنونك وهم أغنياء . ونظير هذا قوله تعالى : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم } في سورة الشورى ( 42 ) . فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب .
والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف . وقد سبقت آية { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } من سورة النساء ( 90 ) ، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية .
وجملة : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء ، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء . وقد تقدم القول في نظيره آنفاً .
وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة { وطُبع على قلوبهم } [ التوبة : 87 ] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية ، ولأجل هذا المعنى فرع عليه { فهم لا يعلمون } لنفي أصل العلم عنهم ، أي يكادون أن يساووا العجماوات .