87- والثقة في اللَّه تحيى الأمل ولذلك لم يذهب الغم برجاء يعقوب في عودة ولديه إليه ، وألقى في روعه أنهما من الأحياء ، وأن موعد التقائه بهما قد حان ، فأمر بنيه أن ينقبوا عنهما ، قائلا لهم : يا بني ارجعوا إلى مصر فانضموا إلى أخيكم الكبير ، وابحثوا عن يوسف وأخيه وتطلَّبوا أخبارهما في رفق لا يشعر به الناس ، ولا تقنطوا من أن يرحمنا اللَّه بردهما ، لأنه لا يقنط من رحمة اللَّه غير الجاحدين .
ثم يوجههم يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه ؛ وألا ييأسوا من رحمة الله ، في العثور عليهما ، فإن رحمة الله واسعة وفرجه دائما منظور :
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . .
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ) . .
تحسسوا بحواسكم ، في لطف وبصر وصبر على البحث . ودون يأس من الله وفرجه ورحمته . وكلمة " روح " أدق دلالة وأكثر شفافية . ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله الندي :
( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . .
فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله ، الندية أرواحهم بروحه ، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية ، فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب ، واشتد بهم الضيق . وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه ، وفي أنس من صلته بربه ، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه ، وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب . . .
يقول تعالى مخبرا عن يعقوب ، عليه السلام ، إنه ندب بنيه على{[15269]} الذهاب في الأرض ، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين .
والتحسس{[15270]} يكون في الخير ، والتجسس يستعمل في الشر .
ونَهّضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله ، أي : لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه{[15271]} فإنه لا يقطع الرجاء ، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون{[15272]} .
{ يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه } فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس . { ولا تيأسوا من روح الله } ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه . وقرئ { من روح الله } أي من رحمته التي يحيا بها العباد . { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 )
المعنى : { اذهبوا } إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل ، { فتحسسوا } ، أي استقصوا ونقروا ، والتحسس : طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع ، ويستعمل في الخير والشر ، فمن استعماله في الخير هذه الآية ، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ولا تحسسوا{[6797]} .
وقوله : { من يوسف } يتعلق بمحذوف يعمل فيه { تحسسوا } التقدير : فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف . لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازاً .
وقرأت فرقة : «تيأسوا » وقرأت فرقة «تأيسوا » على ما تقدم{[6798]} ، وقرأ الأعرج «تِئسوا » بكسر التاء .
وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختاراً . وهذان قد منعا الأوبة .
و «الروح » : الرحمة . ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين . إذ فيه إما التكذيب بالربوبية ، وإما الجهل بصفات الله تعالى .
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز{[6799]} «من رُوح الله » بضم الراء . وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي بوحه فيرجى ، ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع{[6800]}***
وكل ذي غيبة يؤوب*** وغائب الموت لا يؤوب{[6801]}
ويظهر من حديث الذي قال : إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح . فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من الناس ، إنه يئس من روح الله ، وليس الأمر كذلك ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمناً إذ لا يغفر الله لكافر ، فبقي أن يتأول الحديث ، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب ، فذلك معنى بين ، وإما أن تكون من القدرة ، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالاً ، ولا يلزمه بهذا كفر . قال النقاش : وقرأ ابن مسعود «من فضل » وقرأ أبي بن كعب : «من رحمة الله » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.