فأراد الله ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل هذا الغلام الذي يحمل طبيعة كافرة طاغية ، وأن يبدلهما الله خلفا خيرا منه ، وأرحم بوالديه .
ولو كان الأمر موكولا إلى العلم البشري الظاهر ، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام ، ولما كان له عليه من سلطان ، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعا . وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس . ولا أن يرتب على هذا العلم حكما غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة . ولكنه أمر الله القائم على علمه بالغيب البعيد .
وقوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا : اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من قرّاء المكيين والمدنيين والبصريين : «فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا » . وكان بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا في عامّة القرآن ، كقول الله عزّ وجلّ : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا ، وقوله : وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ إيَةٍ ، فألحق قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بِه . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بتخفيف الدال . وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربية يقول : أبدل يُبْدِل بالتخفيف وبَدّل يُبدّل بالتشديد : بمعنى واحد .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقيل : إن الله عزّ وجلّ أبدل أبَوَي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا المبارك بن سعيد ، قال : حدثنا عمرو بن قيس في قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال : بلغني أنها جارية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني سليمان بن أميّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول : أُبْدِلاَ مكان الغلام جارية .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : أبدلا مكان الغلام جارية .
وقال آخرون : أبدلهما ربهما بغلام مسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال : كانت أمه حُبلى يومئذ بغلام مسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه ذكر الغلام الذي قتله الخضر ، فقال : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيماط يكره خير له من قضائه فيما يحبّ .
وقوله : خَيْرا مِنْهُ زَكاةً يقول : خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً قال : الإسلام .
وقوله : وأقْرَبَ رُحْما اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما : أبرّ بوالديه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سيعد ، عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما أي أقرب خيرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وأقْرَبَ رُحْما أرحم به منهما بالذي قتل الخضر .
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك : وأقرب أن يرحماه والرّحْم : مصدر رحمت ، يقال : رَحِمته رَحْمة ورُحما . وكان بعض البصريين يقول : من الرّحِم والقرابة . وقد يقال : رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر ، وهُلْك وهُلُك ، واستشهد لقوله ذلك ببيت العجاج :
*** ولَمْ تُعَوّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوّجا ***
ولا وجه للرّحيم في هذا الموضع . لأن المقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي المقتول ، فقرابتهما من والديه ، وقربهما منه في الرّحيم سواء . وإنما معنى ذلك : وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما كما قال قتادة . وقد يتوجه الكلام إلى أن يكون معناه . وأقرب أن يرحماه ، غير أنه لا قائل من أهل تأويل تأوّله كذلك . فإذ لم يكن فيه قائل ، فالصواب فيه ما قلنا لما بيّنا .
وقرأ الجمهور «أن يبَدّلهما » بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم «يبدلهما » بسكون الباء وتخفيف الدال ، و «الزكاة » : شرف الخلق ، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية ، و «الرحم » الرحمة ، والمراد عند فرقة أي يرحمهما ، وقيل أي يرحمانه ، ومنه قول رؤبة بن العجاج : [ الرجز ]
يا منزل الرحم على إدريسا . . . ومنزل اللعن على إبليسا{[7876]}
وقرأ ابن عامر «رحُماً » بضم الحاء ، وقرأ الباقون «رحْماً » بسكونها ، واختلف عن أبي عمرو ، وقرأ ابن عباس «ربهما أزكى منه » و { أقرب رحماً } وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاماً مسلماً ، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية ، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبياً ، وذكره المهدوي عن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل ، وهذه المرأة لم تكن فيهم ، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملاً بغلام مسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.