( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون . ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون . قالوا : يا ويلنا ! من بعثنا من مرقدنا ? هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) . .
يسأل المكذبون : ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) . . فيكون الجواب مشهداً خاطفاً سريعاً . . صيحة تصعق كل حي ، وتنتهي بها الحياة والأحياء :
( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) . .
فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة ، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حساباً .
قال الله تعالى : { مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي : ما ينتظرون{[24769]} إلا صيحة واحدة ، وهذه - والله أعلم - نفخة الفزع ، ينفخ في الصور نفخة الفزع ، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذ أمر الله تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطَوِّلُها ويَمُدُّها ، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتًا ، ورفع ليتًا - وهي{[24770]} صفحة العنق - يتسمع الصوت من قبل السماء .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم ، إلا صيحة واحدة تأخذهم ، وذلك نفخة الفَزَع عند قيام الساعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الاَثار . ذكر من قال ذلك ، وما فيه من الأثر :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا عوف بن أبي جميلة عن أبي المغيرة القوّاس ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لُيْنفَخَنّ في الصور ، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان ، فما يُرسله أحدهما من يده حتى يُنفَخ في الصور ، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصّور ، وهي التي قال الله : { ما يَنْظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً . . . } الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { ما يَنْظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُون } ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : «تَهِيجُ السّاعَةُ بالنّاسِ وَالرّجُلُ يَسْقِي ماشِيَتَهُ ، وَالرّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ ، وَالرّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ والرّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ ، وَتهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذلكَ ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ما ينظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً قال : النفخة نفخة واحدة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع ، عمن ذكره ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ لمّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَلَقَ الصّورَ ، فأعْطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ » قالَ أبو هريرة : يا رسول الله : وما الصور ؟ قال : «قَرْنٌ » قال : وكَيْفَ هُوَ ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ ، الأُولى نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثّانِيَةُ نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ نَفْخَةُ القِيام لِرَبّ العالَمِينَ ، يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، وَيأْمُرُهُ اللّهُ فَيُدِيمُها وَيُطَوّلُها ، فَلا يَفْتُرُ ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : ما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ، ثُمّ يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، فإذَا هُمْ خامِدُونَ ، ثُمّ يُمِيتُ مَنْ بَقِيَ ، فإذَا لَمْ يَبْقَ إلاّ اللّهُ الوَاحِدُ الصّمَدُ ، بَدّلَ الأرْضَ غيرَ الأرْضِ والسّمَوَاتِ ، فَيَبْسُطُها وَيَسْطَحُها ، وَيَمُدّها مَدّ الأدِيمِ العِكاظِيّ ، لا تَرَى فِيها عِوَجا وَلا أمْتا ، ثُمّ يَزْجُرُ اللّهُ الخَلْقَ زَجْرَةً ، فإذَا هُمُ فِي هَذِهِ المُبَدّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأُولى ما كانَ في بَطْنها كان في بَطْنِها ، وَما كانَ على ظَهْرِها كانَ عَلى ظَهْرِها » .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَهُمْ يَخِصّمُونَ } فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة : «وَهُمْ يَخْصّمُونَ » بسكون الخاء وتشديد الصاد ، فجمع بين الساكنين ، بمعنى : يختصمون ، ثم أدغم التاء في الصاد فجعلها صادا مشدّدة ، وترك الخاء على سكونها في الأصل . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «وَهُمْ يُخَصّمُونَ » بفتح الخاء وتشديد الصاد بمعنى : يختصمون ، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتحة التي في يفتعلون إلى الخاء منها ، فحرّكوها بتحريكها ، وأدغموا التاء في الصاد وشدّدوها . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة : يَخِصّمُونَ بكسر الخاء وتشديد الصاد ، فكسروا الخاء بكسر الصاد وأدغموا التاء في الصاد وشدّدوها . وقرأ ذلك آخرون منهم : «يَخْصِمُونَ » بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، بمعنى «يَفْعَلُونَ » من الخصومة ، وكأن معنى قارىء ذلك كذلك : كأنهم يتكلمون ، أو يكون معناه عنده : كان وهم عند أنفسهم يَخْصمُون مَن وعدهم مجيء الساعة ، وقيام القيامة ، ويغلبونه بالجدل في ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفات في قرّاء الأمصار ، متقاربات المعاني ، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب .
و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { ما } نافية ، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[9790]} ، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم ، فما لها من فواق ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن القسطنطين المكي «يَخَصِّمون » بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة ، وأصلها يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد ، وقرأ نافع وأبو عمرو أيضاً «يَخْصِّمون » بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي ، وأصلها يختصمون حذفت حركة التاء دون نقل ثم أدغمت في الصاد ، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضاً والحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «يَخِصِّمون » بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون عللت كالتي قبلها ، ثم كسرت للالتقاء ، وقرأت فرقة «يِخِصِّمون » بكسر الياء والخاء وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء ، وفي مصحف أبي بن كعب «يختصمون » ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ويتدافعون في شؤونهم ، وقرأ حمزة «يخصمون » وهذه تحتمل معنيين أحدهما المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضاً في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق في زعمهم وظنهم ، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا أو غلبوا ، لأنك تقول : خاصمت فلاناً فخصمته إذا غلبته .