( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر . بأسهم بينهم شديد . تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) .
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في " تشخيص " حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان . بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة . فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان . حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء . وسبحان العليم الخبير !
وتبقى الملامح النفسية الأخرى ( بأسهم بينهم شديد ) . . ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم ، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان ، والجنس والوطن والعشيرة . . ( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم ، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ؛ إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع . فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور ، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد ، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء ، وتصادم الاتجاهات . وما صدق المؤمنون مرة ، وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار ، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة !
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب . . من المسلمين . . عندما تتفرق قلوب المسلمين ، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة . فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز ، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب ( بأسهم بينهم شديد ) . . ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) . .
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين ، ليهون فيها من شأن أعدائهم ؛ ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم . فهو إيحاء قائم على حقيقة ؛ وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت . ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله ، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد ، فلم تقف لهم قوة في الحياة .
والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم . فهذا نصف المعركة . والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع ، وفي سياق التعقيب عليه ، وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل ، شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه ، ويتدبره كل من جاء بعدهم ، وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة !
ثم قال :{ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ }{[28599]} يعني :أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة{[28600]} بل إما في حصون أو من وراء جدر{[28601]} محاصرين ، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة .
ثم قال { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوتهم [ فيما ] {[28602]} بينهم شديدة ، كما قال : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] ؛ ولهذا قال : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } أي : تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ، وهم مختلفون غاية الاختلاف .
قال : إبراهيم النخعي : يعني : أهل الكتاب والمنافقين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } .
وقوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ } يقول جلّ ثناؤه : لا يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون ، لا يبرزون لكم بالبراز ، { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } يقول : أو من خلف حيطان .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والمدينة { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر } على الجماع بمعنى الحيطان . وقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ » على التوحيد بمعنى الحائط .
والصواب من القول عندي في ذلك أنهما قراءاتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : { بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }يقول جلّ ثناؤه : عداوة بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضا شديدة تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا يعني المنافقين وأهل الكتاب ، يقول : تظنهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم ، { وَقُلُوبُهُمْ شَتّى } يقول : وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا .
وقوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }يقول جلّ ثناؤه : هذا الذي وصفت لكم من أمر هؤلاء اليهود والمنافقين ، وذلك تشتيت أهوائهم ، ومعاداة بعضهم بعضا من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } قال : تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، مختلفة أعمالهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المنافقون يخالف دينهم دين النضير .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال : هم المنافقون وأهل الكتاب .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، مثل ذلك .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المشركون وأهل الكتاب .
وذُكر أنها في قراءة عبد الله : { وَقُلُوبُهُمْ أشَتّ } بمعنى : أشدّ تشتتا : أي أشدّ اختلافا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.