اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ} (14)

قوله تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين «إلاَّ » إذا كانوا { فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدُّروب{[56017]} والحيطان [ يظنُّون ]{[56018]} أنها تمنعهم منكم ، { أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ } أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم{[56019]} .

قوله : «جَمِيعاً » حال ، و{ إِلاَّ فِي قُرًى } متعلق ب «يُقَاتِلُونَكُمْ »{[56020]} .

وقوله : «جُدُرٍ » .

قرأ ابن كثير{[56021]} وأبو عمرو : «جدار » بالإفراد . وفيه أوجه{[56022]} :

أحدها : أنه السُّورُ ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم .

والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه .

والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار .

والباقون قرأوا : «جُدُر » - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار ، فجمع لذلك .

وقرأ الحسن وأبو{[56023]} رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون ؛ وهي تخفيف الأولى ، وقرأ ابن كثير - أيضاً{[56024]} - في رواية هارون عنه ، وهي قراءة كثير من المكيين : «جَدْر » بفتحة وسكون .

فقيل : هي لغة في الجدار .

وقال ابن عطية{[56025]} : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم . يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع . والجدر : نبت ، واحده جدرة .

وقرئ{[56026]} : «جَدَرٌ » - بفتحتين - حكاها الزمخشري .

وهي لغة في الجدار أيضاً .

وقرئ : «جُدْر » - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار .

قال القرطبي{[56027]} : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف «كتاب » وفي الجمع كألف «ظِراف » ومثله «ناقة هجان ، ونوق هجان » لأنك تقول في التثنية «هجانان » ، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى .

قاله ابن جني{[56028]} .

قوله : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } ، «بَيْنَهُمْ » متعلق ب «شديد » و«جميعاً » مفعول ثانٍ ، أي : مجتمعين .

وقوله : { وَقُلُوبُهُمْ شتّى } . جملة حالية ، أو مستأنفة للإخبار بذلك . والعامة على «شتى » بلا تنوين ، لأنها ألف تأنيث .

ومن كلامهم : «شَتَّى تئوب الحلبة » أي متفرقين{[56029]} .

وقال آخر : [ الطويل ]

إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا *** هِيَ اليَوْمَ شَتَّى ، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ{[56030]}

وقرأ مبشر{[56031]} بن عبيد : «شَتًّى » منونة ، كأنه جعلها ألف الإلحاق .

وفي قراءة ابن مسعود : «وقُلُوبُهُمْ أشتُّ »{[56032]} يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً .

فصل في معنى الآية{[56033]}

معنى { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوة بعضهم لبعض . قاله ابن عباس .

وقال مجاهد : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } بالكلام والوعيد لنفعلن كذا{[56034]} .

وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ{[56035]} .

وقيل : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس ، وإذا لقوا العدو انهزموا .

{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } ، يعني اليهود والمنافقين . قاله مجاهد . وعنه أيضاً : يعني المنافقين .

وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب .

وقال قتادة : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } أي : مجتمعين على أمْر ورأي . { وَقُلُوبُهُمْ شتّى } : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق{[56036]} .

وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود ، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم{[56037]} { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله .

وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم . وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم{[56038]} .


[56017]:ينظر: الفخر الرازي 29/252.
[56018]:سقط من: أ.
[56019]:ينظر: القرطبي 18/24.
[56020]:ينظر: الدر المصون 6/298.
[56021]:ينظر: الحجة 6/283، وإعراب القراءات 2/257، وحجة القراءات 705، والعنوان 188، وشرح الطيبة 6/49، وشرح شعلة 601، وإتحاف 2/531.
[56022]:ينظر: الدر المصون 6/298.
[56023]:ينظر: المحرر الوجيز 5/289، والبحر المحيط 8/247، والدر المصون 6/298.
[56024]:السابق.
[56025]:المحرر الوجيز 5/289.
[56026]:ينظر: الكشاف 4/507، والدر المصون 6/297.
[56027]:الجامع لأحكام القرآن 18/24.
[56028]:ينظر: المحتسب 2/317.
[56029]:ينظر: الدر المصون 6/298.
[56030]:ينظر: القرطبي 18/25، والبحر 8/248، والدر المصون 6/298.
[56031]:ينظر: البحر المحيط 8/248، والدر المصون 6/298.
[56032]:ينظر: السابق، والقرطبي 18/25.
[56033]:ينظر: القرطبي 18/24.
[56034]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/24).
[56035]:ينظر المصدر السابق.
[56036]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/45)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/295)، وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[56037]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/46)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/295)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[56038]:ينظر القرطبي 18/24، والرازي 29/252.