فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان :
( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، ويلقون فيها تحية وسلاما ، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) . .
والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة ، أو المكان الخاص في الجنة ، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض ، عندما يستقبلون الأضياف . وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم ، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام ، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات . وهو تعبير ذو دلالة . فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس ، ومغريات الحياة ، ودوافع السقوط . والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر . الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً } .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي ، وذلك من ابتداء قوله : وَعِبادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ على الأرْضِ هَوْنا . . . إلى قوله : وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا . . . الاَية يُجْزَوْنَ يقول : يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا الغُرْفَةَ وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة بِمَا صَبرُوا يقول : بصبرهم على هذه الأفعال ، ومقاساة شدتها . وقوله : وَيُلَقّوْنَ فِيها تَحِيّةً وَسَلاما اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : وَيُلَقّوْنَ مضمومة الياء ، مشدّدة القاف ، بمعنى : وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «ويَلْقَوْنَ » بفتح الياء ، وتخفيف القاف .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَة الأمصار ، بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها «وَيَلْقَوْنَ فِيها » بفتح الياء ، وتخفيف القاف ، لأن العرب إذا قالت ذلك بالتشديد ، قالت : فلان يُتَلَقّى بالسلام وبالخير ، ونحن نَتَلقاهم بالسلام ، قرنته بالياء ، وقلما تقول : فلان يُلَقّى السلام ، فكان وجه الكلام ، لو كان بالتشديد ، أن يقال : ويُتَلَقّون فيها بالتحية والسلام . وإنما اخترنا القراءة بذلك ، كما تجيز : أخذت بالخطام ، وأخذتُ الخطام . وقد بيّنا معنى التحية والسلام فيما مضى قبل ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ أولئك يجزون الغرفة } أعلى مواضع الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى : { وهم في الغرفات آمنون } وللقراءة بها ، وقيل هي من أسماء الجنة . { بما صبروا } وبصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات . { ويلقون فيها تحية وسلاما } دعاء بالتعمير والسلامة أي يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه ، أو تبقية دائمة وسلامة من كل آفة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر يلقون من لقي .
قرأ أبي كعب «يجازون » بألف ، و { الغرفة } من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال : [ الهزج ]
ولولا الحبة السمراء . . . لم نحلل بواديكم{[8891]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ويُلَقّون » بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويلْقون » بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختلف عن عاصم{[8892]} .
التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يَرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذُكر قبل اسم الإشارة . وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي : التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف ، وترك الإقتار ، والتنزه عن الشرك ، وترك الزنا ، وترك قتل النفس ، والتوبةُ ، وترك الكذب ، والعفوُ عن المسيء ، وقبولُ دعوة الحق ، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء . واسم الإشارة هو الخبر عن قوله { وعباد الرحمن } [ الفرقان : 63 ] كما تقدم على أرجح الوجهين .
و { الغرفة } : البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعزّ منزلاً من البيت الأرضي . والتعريف في الغرفة تعريفُ الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب } [ الحديد : 25 ] فالمعنى : يُجزون الغُرَف ، أي من الجنة ، قال تعالى : { وهم في الغُرفات آمنون } [ سبأ : 37 ] .
والباء للسببية . و ( ما ) مصدرية في قوله : { بما صبروا } ، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى ، وصبرُهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام ، وصبرهم على مشقة الطاعات .
وقرأ الجمهور : { وَيُلقون } بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع لقّاه إذا جعله لاقياً . وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { ويَلْقَون } بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لَقِيَ . وَاللُّقِيُّ واللِّقَاء : استقبال شيء ومصادفته ، وتقدم في قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه } في سورة البقرة ( 223 ) ، وفي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم الذين كفروا زحْفاً } في سورة الأنفال ( 15 ) ، وتقدم قريباً قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلقَ أثاماً } [ الفرقان : 68 ] .
وقد استعير اللُّقِيّ لسماع التحية والسلام ، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء والمنشدون .
ويجوز أن يكون إطلاق اللُّقِيّ لسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يَلْقَوْنَهم بها ، فهو مجاز بالحذف قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } في سورة الأنبياء ( 103 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي، وذلك من ابتداء قوله:"وَعِبادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ على الأرْضِ هَوْنا" إلى قوله: "وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا... ""يُجْزَوْنَ" يقول: يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا "الغُرْفَةَ" وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة "بِمَا صَبرُوا" يقول: بصبرهم على هذه الأفعال، ومقاساة شدتها.
وقوله: "وَيُلَقّوْنَ فِيها تَحِيّةً وَسَلاما":... وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة بصنيعهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا، فقال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}، والغرفة، هي أعلى المنازل، وأشرفها. أخبر أنهم يجزون ذلك، ويكونوا فيها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المراد يجزون الغرفات وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصاراً على الواحد الدال على الجنس، والدليل على ذلك قوله: {وَهُمْ فِي الغرفات ءامِنُونَ} [سبأ: 37] وقراءة من قرأ: في الغرفة {بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعن أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك. وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه.
والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعني أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيي بعضهم بعضاً ويسلم عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصف سبحانه عباده المؤمنين بضد أوصاف الكافرين من الرفق والسكينة، والتواضع والحلم والطمأنينة والشكر لربهم والرغبة إليه والرهبة منه. وقال الرازي: فوصف مشيهم وخطابهم وانتصابهم له ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتهم وتيقظهم وانتباههم وصدقهم ومحبتهم ونصحهم. تشوف السامع إلى ما لهم عنده بعد المعرفة بما للكافرين، فابتدأ الخبر عن ذلك بتعظيم شأنهم فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة، العظيمو المنزلة. ولما كان المقصود إنما هو الجزاء، بني للمفعول قوله: {يجزون} أي فضلاً من الله على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية، والأحوال الصافية {الغرفة} أي التي هي لعلوها واتساعها وطيبها لا غرفة غيرها، لأنها منتهى الطلب، وغاية الأرب، لا يبغون عنها حولاً، ولا يريدون بها بدلاً، وهي كل بناء عال مرتفع، والظاهر أن المراد بها الجنس.
ولما كانت الغُرَب في غابة التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن، رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء فقال: {بما صبروا} أي أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، وغير ذلك من معاني جلالهم.
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة، قال: {ويلقون} أي يجعلهم الله لاقين بأيسر أمر... {فيها تحية} أي دعاء بالحياة من بعضهم لبعض، ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم، ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله ينطقون، وذلك على وجه الإكرام والإعظام مكان ما أهانهم عباد الشيطان {وسلاماً} أي من الله ومن الملائكة وغيرهم، وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يَرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذُكر قبل اسم الإشارة. وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف، وترك الإقتار، والتنزه عن الشرك، وترك الزنا، وترك قتل النفس، والتوبةُ، وترك الكذب، والعفوُ عن المسيء، وقبولُ دعوة الحق، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء. واسم الإشارة هو الخبر عن قوله {وعباد الرحمن} [الفرقان: 63] كما تقدم على أرجح الوجهين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لعل كلمة الغرفة واردةٌ على سبيل الكناية عن الدرجة العالية في الجنة، والمقصود بالصبر الذي يبلغ به هؤلاء علوّ الدرجة في الجنة، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على ما يصيبهم من البلاء، لأن ذلك يدل على الالتزام العميق، والروحية العالية، والإِرادة الصلبة، والوعي العميق، والارتباط بالله من أوثق المواقع، ليكون لهم السعادة في الحصول على رضاه، في مواجهة غضب كل الناس مع كل ضغوط الحرمان المادية والنفسية والمعنوية على حياتهم.
وهكذا تؤكد هذه الآية وغيرها من الآيات أن الصبر يمثل الإطار للمضمون الإيمانيّ في حياة الناس الذي يحتوي كل مواقع الحياة الرسالية ومواقفها. فبالصبر يحصل الفلاح، وبالصبر يتأكد الخير والحق والصلاح، وبالصبر ينال الناس ما عند الله من النعيم والسعادة والرضوان في الجنة.. ويلقّون فيها التحية من الله، والسلام من ملائكته، في ما يعبر عنه من اللطف والرعاية والرحمة والحنان. وهكذا نرى أن عباد الرحمن الذين يختصهم الله برحمته، ويدعوهم إلى جنته، ويشملهم برضوانه، هم الذين تتجسد فيهم ملامح الشخصية الإسلامية في الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر، وفي التجسيد العملي في التزام طاعة الله في أمره ونهيه، وتطلّعهم إلى السموّ الروحي في آفاقه، والارتفاع المتحرك في طريقه، وفي الاندماج بالمجتمع الذي يلتقي على كلمته. وإذا كان الله قد تحدث عن بعض صفات هؤلاء الفتية من عباد الرحمن المخلصين، فإن الحديث يطرح هذه الأمور كنماذج للصفات الإيجابية والسلبية التي تمتد في كل أحكام الله في ما تمثله من قاعدةٍ أخلاقيةٍ متحركةٍ في مفرداتها العملية في حياة الإنسان، فإن الله يريد له أن يتخلق بأخلاقه ويلتزم بكل أحكامه ويجعل كل حياته صورةً حيةً لما هو الإسلام، ولما هو الإيمان في مفاهيمه العقيدية والروحية والعملية.