المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

10- وقد خسر من أخفى فضائلها ، وأمات استعدادها للخير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

7

ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) . .

وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .

هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .

وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !

وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !

ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

وقوله : وَقَدْ خاب مَنْ دَسّاها يقول تعالى ذكره : وقد خاب في طِلبته ، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح مَنْ دسّاهَا يعني : من دَسّس الله نفسه فأحْملها ، ووضع منها ، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ ، وترك طاعة الله . وقيل : دسّاها وهي دَسّسها ، فقُلبت إحدى سيناتها ياء ، كما قال العجّاج :

*** تَقَضّيَ الْبازِي إذا البازِي كَسَرْ ***

يريد : تَقَضّض . وتظنّيت هذا الأمر ، بمعنى : تظننت ، والعرب تفعل ذلك كثيرا ، فتبدل في الحرف المشدّد بعضَ حروفه ، ياء أحيانا ، وواوا أحيانا ومنه قول الاَخر :

يَذْهَبُ بِي فِي الشّعْرِ كُلّ فَنّ *** حتى يَرُدّ عَنّي التَظَنّي

يريد : التظنن : وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها يقول : وقد خاب من دَسّى الله نُفسَه فأضلّه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها يعني : تكذيبها .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خَصِيف ، عن مجاهد وسعيد بن جُبير وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها قال أحدهما : أغواها ، وقال الاَخر : أضلّها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خَصِيف ، عن مجاهد وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها قال : أضلها ، وقال سعيد : من أغواها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مَنْ دَسّاها قال : أغواها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها قال : أثّمها وأفجرها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقَدْ خابَ يقول : وقد خاب من دَسّى اللّهُ نَفسَه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

وقد خاب من دساها نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق وأصل دسى دسس كتقضى وتقضض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

و { دساها } معناه : أخفاها وحقرها أي وصغر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب ، يقال دسا يدسو ودسّى بشد السين يدسي وأصله دسس ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

ودسست عمراً في التراب فأصبحت . . . حلائله يبكين للفقد ضعفا{[11849]}

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها{[11850]} » هذا الحديث يقوي أن المزكي هو الله تعالى ، وقال ثعلب معنى الآية { وقد خاب من دساها } في أهل الخير بالرياء وليس منهم في حقيقته .


[11849]:البيت في اللسان –دسا- وفي القرطبي، والبحر المحيط، وفتح القدير، وقد اختلف في ألفاظه والذي في اللسان: وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت نساؤهم منهم أرامل ضيع و "عمرو" قبيلة، والبيت أنشده ابن الأعرابي لرجل من طيء يتحدث عن هذه القبيلة، ولهذا قال: "نساؤهم" ، ومعنى "دسيت" :أغويت وأفسدت، والحلائل: جمع حليلة، وهي زوج الرجل، لأنها تحاله، أي تحل حيث يحل، أو لأنها حلال له وهو حلال لها، ومعنى "ضعفا" : ضعافا، يقال: ضعفته بمعنى صيرته ضعيفا، والضائع: الذي أهمل. والأرامل: جمع أرملة، وهي التي فقدت زوجها، والشاهد أن دسا ودسس بمعنى: أغوى وأفسد.
[11850]:أخرجه النسائي في الاستعاذة، ومسلم في الذكر، وأحمد في مسنده (4/371، 6/209) وأخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وقف ثم قال: (اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها وخير من زكاها). هكذا نقله ابن كثير في تفسيره.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

ومعنى : { دساها } حال بينها وبين فعل الخير . وأصل فعل دسّى : دسّ ، إذا أدخل شيئاً تحت شيء فأخفاه ، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلباً للتخفيف كما قالوا : تقضّى البازي أو تقضض ، وقالوا : تظنيت ، أي من الظن .

وإن كانت جملة { قد أفلح من زكاها } جواب القسم فجملة { كذبت ثمود بطغواها } [ الشمس : 11 ] في موقع الدليل لمضمون جملة { وقد خاب من دساها } أي خاب كخيبة ثمود .

والفلاح : النجاح بحصول المطلوب ، والخيبة ضده ، أي أن يُحرم الطالب مما طلبه .

فالإِنسان يرغب في الملائم النافع ، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال الدائمان ، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف ، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح ، والثاني يحصِّل نفعاً عارضاً زائلاً وكمالاً موقتاً ينقلب انحطاطاً فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب ، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة .

والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها .

وفي هذه الآيات مُحسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما ، ومثل النهار والليل ، والتجلية والغشي ، والسماء والأرض ، والبناء والطحو ، والفجور والتقوى ، والفلاح والخيبة ، والتزكية والتدسية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقد خاب في طِلبته ، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح "مَنْ دسّاهَا" يعني : من دَسّس الله نفسه فأهْملها ، ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ ، وترك طاعة الله ...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

فيه وجهان :

أحدهما : على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه . الثاني : من دسّى نفسه . وفي " دسّاها " سبعة تأويلات : أحدها : أغواها وأضلها ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، لأنه دسّى نفسه في المعاصي ....

الثاني : إثمها وفجورها ، قاله قتادة .

الثالث : خسرها ، قاله عكرمة .

الرابع : كذبها ، قاله ابن عباس .

الخامس : أشقاها ، قاله ابن سلام ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوئ الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أخفى نفسه الكريمة ، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ، بالتدنس بالرذائل ، والدنو من العيوب ، والاقتراف للذنوب ، وترك ما يكملها وينميها ، واستعمال ما يشينها ويدسيها . ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) . .

وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .

هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .

وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !

وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !

ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .