الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} (10)

" وقد خاب من دساها " أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية . وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها وأغواها . وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، وصالح الأعمال ، وخاب من دس نفسه في المعاصي . قاله قتادة وغيره . وأصل الزكاة : النمو والزيادة ، ومنه زكا الزرع : إذا كثر ريعه ، ومنه تزكية القاضي للشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل ، وذكر الجميل . وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة " البقرة " {[16096]} مستوفى . فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر ، شهر نفسه ورفعها . وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض ، ليشتهر مكانها للمعتفين{[16097]} ، وتوقد النار في الليل للطارقين . وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام{[16098]} ، ليخفى مكانها عن الطالبين . فأولئك علوا أنفسهم وزكوها ، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها . وكذا الفاجر أبدا خفي المكان ، زمر{[16099]} المروءة غامض الشخص ، ناكس الرأس بركوب المعاصي . وقيل : دساها : أغواها . قال :

وأنتَ الذي دَسَّيْتَ عَمْراً فأصبحت *** حلائلُه منه أراملَ ضُيِّعَا{[16100]}

قال أهل اللغة : والأصل : دسسها ، من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت سينه ياء ، كما يقال : قصيت أظفاري ، وأصله قصصت أظفاري . ومثله قولهم في تقضض : تقضي . وقال ابن الأعرابي : " وقد خاب من دساها " أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم .


[16096]:راجع جـ 1 ص 343 طبعة ثانية أو ثالثة.
[16097]:المعتفى: كل طالب فضل أو رزق.
[16098]:الأولاج: ما كان من كهف أو غار يلجأ إليه. والأهضام: أسافل الأودية.
[16099]:الزمر: القليل.
[16100]:الذي في اللسان (مادة دسا): وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت *** نساؤهم فيهم أرامل ضيع وقال: دسيت: أغويت وأفسدت. وعمرو: قبيلة.