ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا )ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال ، وثاب إلى حمى الله ، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة . ( وكان الله غفورا رحيما ) . .
قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به ، وبالزناعفة وإحصانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحوّلهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هم الذي يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ . . . إلى آخر الاَية ، في وَحْشِيّ وأصحابه ، قالوا : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ، فأنزل الله فيهم : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين ، قتالاً مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، وبالزنا إحصانا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا . لمّا أنزل الله هذه الاَية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند الله خير ، فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ من المشركين من أهل مكة ، فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول : يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا . وأنزل الله في ذلك . يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ يعنيهم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ ، إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعني ما كان في الشرك . يقول الله لهم : أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ، يدعوهم إلى الإسلام ، فهاتان الاَيتان مكيتان ، والتي في النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا . . . الاَية ، هذه مدنية ، نزلت بالمدينة ، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تُمَيْلة ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه : يُبَدّلُ اللّهُ سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال :
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفا *** وَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفا
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ . . . إلى قوله يَخْلُدْ فِيهِ مُهانا : فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ . قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، قال : صدّق ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدّل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصريّ ، قال : حدثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا محمد بن حازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ ، وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الجَنّةَ ، قال : يُؤْتَى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيامَةِ ، فَيُقالُ : نَحّوا كِبارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها ، قال : فَيُقالُ لَهُ : عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا ، وَعملْتَ كَذَا وكَذَا ، قال : فَيَقُولُ : يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فَيُقالُ لَهُ : لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ » .
قال أبو جعفر : وأولَى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : فأولئك يبدّل الله سيئاتهم : أعمالهم في الشرك ، حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح ، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة ، إلى خلاف ما كانت عليه ، إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك ، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة ، وذلك ما لا يقوله ذو حجا .
وقوله : وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها . قوله : وَمَنْ تابَ يقول : ومن تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله وعَمِلَ صَالِحا يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سَيِىء أعماله في الشرك ، بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك ، بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِحا فإنّه يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ . . . إلى قوله وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال : وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء فإنّهُ يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا لم تخطر التوبة عليكم .
{ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة . وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا . { وكان الله غفورا رحيما } فلذلك يعفو عن السيئات ويثبت على الحسنات .