{ 104 ْ } { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ْ }
أي : أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه { يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } التائبين من أي ذنب كان ، بل يفرح تعالى بتوبة عبده ، إذا تاب أعظم فرح يقدر .
{ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } منهم أي : يقبلها ، ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه ، حتى تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم ، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك .
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي : كثير التوبة على التائبين ، فمن تاب إليه تاب عليه ، ولو تكررت منه [ المعصية ] {[384]} مرارا . ولا يمل اللّه من التوبة على عباده ، حتى يملوا هم ، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه ، وموالاتهم عدوهم .
{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء ، وكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بآياته ، ويتبعون رسوله .
{ ألم يعلموا } الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم ، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما . { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } إذا صحت وتعديته ب { عن } لتضمنه معنى التجاوز . { ويأخذ الصدقات } يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله . { وأن الله هو التواب الرحيم } وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم .
قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا » على ذكر الغائب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا » على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا » ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق ، والضمير في { يعلموا } قال ابن زيد : يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ، وذلك أنهم لما ِتيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء ؟ فنزلت هذه الآية ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يعلموا } يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم ، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك ، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل ، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك ، وقوله { ويأخذ الصدقات } معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه .
وقال الزجّاج : معناه ويقبل الصدقات ، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه : «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل »{[5878]} ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة : «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل »{[5879]} ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد ، فقد يحتمل أن تخرج لفظة { ويأخذ } على هذا ، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة ، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعاً ، وهذه نازلة هذه الآية ، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر ، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم ، واختلف هل تقبل توبة الجميع ، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله ، وأما إذا فرضنا تائباً غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا ، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون - وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه{[5880]} - يقطع على الله بقبول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه ، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين ، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء ، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه ، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القول ، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب ، وقوله تعالى { عن عباده } هي بمعنى «من » وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره{[5881]} ، وقوله تعالى { ألم يعلموا } تقرير ، والمعنى حق لهم أن يعلموا .
... قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب، إلا كان كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ، حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم» ثم قرأ: {اَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأخُذُ الصَّدَقَاتِ}. (الأم: 2/60.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله تعالى ذكره أخبر المؤمنين به أن قبول توبة من تاب من المنافقين وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وأن نبيّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه، وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد، وأن محمدا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله، فقال جلّ ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين الموثقو أنفسهم بالسواري، القائلون لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا، السائلو رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ صدقة أموالهم أن ذلك ليس إلى محمد، وأن ذلك إلى الله، وأن الله هو الذي يقبل من تاب عباده أو يردّها، ويأخذ صدقة من تصدق منهم، أو يردّها عليه دون محمد، فيوجهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله، ويقصدوا بذلك قصد وجهه دون محمد وغيره، ويخلصوا التوبة له ويريدوه بصدقتهم، ويعلموا "أن الله هو التوّاب الرحيم "يقول: المراجع لعبيده إلى العفو عنهم إذا رجعوا إلى طاعته، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) يحتمل قوله: (ألم يعلموا) أي قد علموا أن الله يقبل توبة من تاب، ويحتمل على الأمر؛ أي اعلموا (أن الله يقبل التوبة عن عباده) ويحتمل قوله: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) ممن تاب (ويأخذ الصدقات)..
وتشبه إضافة الأخذ إلى نفسه إضافته إلى رسوله بقوله (خذ من أموالهم صدقة) وذلك كثير في القرآن.
وقوله تعالى: (وأن الله هو التواب الرحيم) قال أبو بكر الأصم: (التواب)... هو الموفِّق للتوبة.
ثم الكافر إذا أسلم، وتاب، لم يُلزم مع التوبة كفارة أخرى سوى التوبة وإن كان ارتكب مساوئ وفواحش سوى الشرك والكفر. والمسلم إذا ارتكب مساوئ لزمه التوب والكفارة جميعا؛ وذلك لأن المسلم لما أسلم اعتقد حفظ ما لزمه من الشرائع؛ فإذا ارتكب ما ذكر خرج عن شرائعه، وأدخل نقصانا في ما اعتقد حفظه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الألف في قوله "ألم يعلموا "ألف استفهام، والمراد بها التنبيه على ما يجب أن يعلم المخاطب إذا رجع إلى نفسه وفكر فيما نبه عليه علم وجوبا. وإنما وجب أن يعلم أن الله يقبل التوبة، لأنه إذا علم ذلك كان ذلك داعيا له إلى فعل التوبة والتمسك بها والمسارعة إليها، وما هذه صورته وجب عليه أن يعلمه ليتخلص به من العقاب ويحصل له الثواب.
إن التوبة التي يسقط العقاب عندها قطعا هي الندم على القبيح والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، لأن الأمة مجمعة على سقوط العقاب عند هذه التوبة وفيما خالف هذه التوبة خلاف.
وقوله "ويأخذ الصدقات "معناه أنه يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية كذلك.
وقوله" وأن الله هو التواب الرحيم "والتواب في صفة الله معناه أنه يقبل التوبة كثيرا، وفي صفة العبد يفيد أنه يفعل التوبة كثيرا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تمدَّحَ -سبحانه- بقبول توبة العاصين إذ بها يُظْهِرُ كَرَمَه، كما تمدَّح بجلال عِزِّه ونَبَّههم على أَنْ يَعرِفوا به جَلاله وقِدَمَه. وكما تَوحَّدَ باستحقاق كبريائه وعظمته تَفَرَّدَ بقبول توبة العبد عن جُرْمِه وزَلَّتِه. فكما لا شبيهَ له في جماله وجلاله لا شريكَ له في إفضاله وإقباله؛ يأخذ الصدقاتِ -قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، فَقَدْرُ الصَّدَقَةِ وخَطرُها بِأَخْذِه لها لا بكثرتها وقِلَّتها؛ قَلَّتْ في الصورة صَدَقَتَهُم ولكِنْ لمَّا أَخَذَها وقِبِلها جَلَّتْ بقبوله لها...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْآخِذُ لِلصَّدَقَاتِ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَالنَّبِيُّ وَاسِطَةٌ، فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِلُهُ هُوَ الْوَاسِطَةُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ كَمَا قَالَتْ الْمُرْتَدَّةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (إنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ السَّائِلِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)...
اعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: {عسى الله أن يتوب عليهم} وما كان ذلك صريحا في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات، والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة، وترغيب كل العصاة في الطاعة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم قوله: {ألم يعلموا} وإن كان بصيغة الاستفهام، إلا أن المقصود منه التقرير في النفس...فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم، ثم زاده تأكيدا بقوله: {وهو التواب الرحيم}.
المسألة الخامسة: {عن} في قوله تعالى: {عن عباده} فيه وجهان:
الأول: أنه لا فرق بين قوله: {عن عباده} وبين قوله: من عباده يقال: أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك.
والثاني: قال القاضي: لعل {عن} أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت.
وأقول: إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة {عن} على هذا المعنى، والذي أقوله إن كلمة {عن} وكلمة «من» متقاربتان، إلا أن كلمة {عن} تفيد البعد، فإذا قيل: جلس فلان عن يمين الأمير، أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله: {عن عباده} يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعدا عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه، وبعده عن حضرة نفسه، فلفظة {عن} كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب.
المسألة السادسة: قوله: {ويأخذ الصدقات} فيه سؤال: وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ: «خذها من أغنيائهم» يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟ والجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى لما بين في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} أن الآخذ هو الرسول، ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى، كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى، والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله، ونظيره قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وقوله: {إن الذين يؤذون الله} والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام.
والجواب الثاني: أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس، وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ، ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم} وأضافه إلى ملك الموت، وهو قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت، وهو قوله: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها. وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه...
وقد روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد الله بن الشاعر السَّكْسَكي الدمشقي -وأصله حمصي، وكان أحد الفقهاء، روى عن معاوية وغيره، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي- قال: غزا الناس في زمان معاوية، رضي الله عنه، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فَغَلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش نَدم وأتى الأميرَ، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس ولن أقبلها منك، حتى تأتي الله بها يوم القيامةَ فجعل الرجل يستقرئ الصحابة، فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعُني أنت؟ فقال: نعم، فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خُمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل، فقال معاوية، رضي الله عنه: لأن أكون أفتيتُه بها أحب إلي من كل شيء أملكه، أحسن الرجل".
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده، ولم يجعل ذلك لرسوله، بَلْه من دونه من خلقه، فالاستفهام لتقرير ما دل عليه القرآن وكونه هو الذي حملهم على التوبة، أو ألم يعلم المؤمنون كافة هذا وهو مقتضى الإيمان وموجبه؟ والاستفهام على هذا تحضيض على العلم وما يستلزمه من التوبة. وقبول التوبة عنهم، قيل: إنه بمعنى قبولها منهم، نحو: لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وقيل: إن القبول هنا قد تضمن معنى التجاوز والصفح، أي هو الذي يقبلها منهم متجاوزا عن ذنوبهم عفوا عنها، وهذا أبلغ.
{ويأخذ الصدقات} أي يتقبلها بأنواعها ويثيب عليها، ويعده إقراضا له فيضاعف ثوابها، بمقتضى وعده في مثل قوله: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن: 17] وقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة: 235]، فأخذ الصدقات له ثلاث صور:
إحداها: أخذ الفقراء والمساكين وغيرهم إياها من المستحقين من يد المتصدق.
الثانية: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عهده والأئمة من بعده إياها لأجل وضعها في مصارفها التي أمر الله بها.
الثالثة: أخذ الله عز وجل إياها، وهو قبولها للإثابة عليها بالمضاعفة التي وعدها.
وفي التعبير بأخذ الله تعالى بعد قوله للنبي {خذ من أموالهم صدقة} تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم بكونه تعالى هو الذي يأخذ ما أمره بأخذه.
{وأن الله هو التواب الرحيم} أي وأنه هو الذي يقبل التوبة بعد التوبة من كل مذنب يشعر بضرر ذنبه، ويتوب عنه منيبا إلى ربه، مهما يتكرر ذلك، الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم. فصيغة المبالغة (التواب) تتحقق بكثرة التائبين وبتكرار التوبة من المذنب الواحد الذي يمنعه الخوف من ربه، أن يصر على ذنبه، كما قال تعالى في وصف المتقين {والَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ولَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وفي الحديث "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة". روى الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ما تصدق أحدكم من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله"، والحديث تمثيل لمضاعفته تعالى للصدقة المقبولة.
وهذه الجملة الاسمية المؤكدة بأن وبضمير الفصل الدالة على الحصر، وما فيها من صيغة المبالغة بمعنى الكثرة من التوبة، ومبالغة الصفة الراسخة من الرحمة تفيد أعظم البشرى للتائبين، وأبلغ الترغيب في التوبة للمذنبين، كما لا يخفى على المتدبرين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103] مشيراً إلى ذلك، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله: {اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102] وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] كانت جملة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة} استئنافاً بيانياً ناشئاً عن التعليل بقوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103]، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا، فيكون الاستفهام تقريراً مشوباً بتعجيبٍ من ترددهم في قبول توبتهم. والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه، ويكون ضمير {يعلموا} عائداً إلى الذين اعترفوا بذنوبهم. وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله: {إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله: {والله سميع عليم} [التوبة: 103]، وكانت جملة: {ألم يعلموا} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها، وكان ضمير {ألم يعلموا} عائداً إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة، وكان الاستفهام إنكارياً. ونُزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقةً...
ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب {التواب} ب {الرحيم} في غاية المناسبة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يؤكد الله سبحانه قبوله للتوبة حتى لا يسرف العصاة ولو كانوا منافقين على أنفسهم، ويظنون أنه لا رجعة إلى الله وإلى الحق، فإن اليأس يولد النفرة والنفرة تولد الكفر، والرجاء في الله يكون معه الرجوع اليه والرجوع اليه يكون معه الإيمان...
و {ألم يعلموا} مكونة من ثلاث كلمات هي: همزة استفهام، "لم "حرف نفي، و "يعلم "وهو فعل. فهل يريد الله هنا أن ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها "همزة الاستفهام الإنكاري" والإنكار نفي، فإذا دخل نفي فهو إثبات، أي "فليعلموا". ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر؟ نقول: إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا، وبدلا من أن يكون الأمر إخبارا من الله، يكون إقرارا من السامع.
{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة} لماذا جاء الحق بكلمة {هو}، وكان يستطيع سبحانه أن يقول:"ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة "ولن يختل الأسلوب؟ أقول: لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول: فلان يستطيع أن يفعل لك كذا، وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل، لكن حين تقول: فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا، فهذا يعني أنه لا يوجد غيره، وهذا هو ضمير الفصل الذي يعنى الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة...
{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة" من "عباده، ولكنه ترك" من "وجاء" ب "عن". والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي" من "بدلا من" عن "ونقول: لا، لأنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنبا قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محددا: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة} أي: متجاوز بقبول التوبة عن العقوبة. وهكذا جاءت" عن "بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قبل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لمّا كان بعض المذنبين كالمتخلفين عن غزوة تبوك يصرّون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إِلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إِنَّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأُخرى التي يعطيها العباد تقرباً إِليه، أو تكفيراً لذنوبهم: (ويأخذ الصدقات)...
إِنَّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإِسلامي أي الزكاة فبالرغم من ترغيب كلَّ المسلمين ودعوتهم إِلى القيام بهذه الوظيفة الإِلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإِسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إِليه، لأنَّ من يأخذها هو الله عز وجل، وإنَّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل يؤدي إِلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلِّ أدب وخضوع، كما يوصل العبد شيئاً إِلى مولاه...
وكما قلنا في محلّه، فإنّ الإِسلام يسعى بكلِّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإِسلامي، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلِّ مجتمع أفراداً عاجزين أطفال، يتامى، مرضى... وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.
ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: (وَإِنَّ الله هُوَ التَّوّاب الرَّحِيم).
يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.
ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنباً مالياً، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي يُرْجِع الروح إِلى طهارتها الأُولى التي كانت عليها قبل الذنب.