اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (104)

قوله تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } الآية .

لمَّا قال في الآية الأولى { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم ، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده ، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات ، أي : يقبلها . قال أبُو مسلمٍ قوله : " أَلَمْ يعلموا " وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس ، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب ، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا : أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته ، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره ، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . ثم زاده تأكيداً بقوله : { هُوَ التواب الرحيم } .

وقرأ الحسن{[18113]} بخلاف عنه " ألَمْ تعْلمُوا " قال أبُو حيَّان : " وفي مصحف{[18114]} أبَيّ " ألَمْ تَعْلمُوا " بالخطاب ، وفيه احتمالات ، أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء ؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ ، والمرادُ : التَّائبون ، وأن يكون على إضمار قولٍ ، أي : قل لهم يا محمد : ألمْ تعلمُوا " .

قوله : " هُوَ يَقْبَلُ " " هو " مبتدأ ، و " يَقْبَلُ " خبره ، والجملةُ خبر " أنَّ " ، و " أنَّ " وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، أو مسدَّ الأول . ولا يجوزُ أن يكون " هو " فصلاً ، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، قوله : " عَنْ عبادِهِ " معلقٌ ب " يَقْبَلُ " وإنَّما تعدَّى ب " عَنْ " فقيل : لأنَّ معنى " مِنْ " ومعنى " عَنْ " متقاربان .

قال ابنُ عطيَّة{[18115]} : " وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه ، نحو : " لا صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى ، ومِنْ غنى " ، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره ، وعن أشره وبطره " . وقيل : لفظة " عَنْ " تُشْعر ببعدٍ ما ، تقول : جلسَ عن يمين الأمير ، أي : مع نَوْعٍ من البُعْدِ . والظَّاهِرُ أنَّ " عَنْ " للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم ، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد ؛ فمعناه المجاوزةُ ، وإذا قلت " منه " فمعناه ابتداء الغاية . قال القاضي : " لعلَّ " عَنْ " أبلغ ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت " قوله : " وَيَأْخُذُ الصدقات " فيه سؤالٌ : وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى ، وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - ، وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ " خذها من أغنِيائهم " {[18116]} يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير ، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟ .

والجوابُ من وجهين :

الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو ، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله ، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره قوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .

والثاني : أنَّهُ أضيف إلى الرسول ، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها ، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس ، وأضيف إلى الفقير ، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم } [ الأنعام : 60 ] ، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، فأضيف إلى الله بالخلق ، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل ، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت ، فكذا ههنا .

قوله : " هُوَ التواب " يجوزُ أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله .

فصل

روى أبو هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : " والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً ، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم " ، ثم قرأ : { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات }{[18117]} .


[18113]:ينظر: الكشاف 2/308، المحرر الوجيز 3/79، البحر المحيط 5/100، الدر المصون 3/501.
[18114]:ينظر: السابق.
[18115]:ينظر: المحرر الوجيز 3/79.
[18116]:تقدم.
[18117]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/493) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ.