البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (104)

{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم } : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت .

وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه : ألم تعلموا بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء ؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء .

وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله ؟ وقيل : وجه التخصيص بهو ، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه .

قال الزجاج : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل .

وقال ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه .

وعن بمعنى مِن ، وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه ، وهذه تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره انتهى .

وقيل : كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان ، إلا أنّ عن تفيد البعد .

فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته .

فلفظة عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى .

والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة .

فإن قلت : أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد .

وعن أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع من .

وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم .

ألا ترى إلى قوله : وأن الله هو التواب الرحيم ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة .

ألا ترى إلى ما روي : « ومَن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة »