محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (104)

[ 104 ] { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم 104 } .

{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وإخبار بأن كل من تاب إليه ، تاب عليه . ومن تصدق ، تقبل منه .

تنبيهات

الأول – الضمير في { يعلموا } للمتوب عليهم . فيكون ذكر قبول توبتهم ، مع أنه تقدم ما يشير إليه ، تحقيقا لما سبق من قبول توبتهم ، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم . وتقريرا لذلك ، وتوطينا لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم ، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه ، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية إليه ، عليه الصلاة والسلام .

/ قال أبو مسلم : المقصود من الاستفهام التقرير في النفس . ومن عادة العرب ، في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه ، أن يقولوا : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته ؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم – انتهى- .

وجوز عود الضمير لغيرهم من المنافقين . فالاستفهام توبيخ وتقريع لهم على عدم التوبة وترغيب فيها ، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها . وقرئ بالتاء . وهو ، على الأول ، التفات ، وعلى الثاني بتقدير ( قل ) ، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معا ، للتمكن والتخصيص .

الثاني- الضمير أعني ( هو ) إما للتأكيد ، أو له مع التخصيص . بمعنى أن الله يقبل التوبة لا غيره ، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة ، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك ، والخبر المضارع من مواقعه . وقيل : معنى التخصيص في ( هو ) أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ، ويردها ، فاقصدوه بها ، ووجهوها إليه ، لأن كثرة رجوعهم إليه ، صلوات الله عليه ، مظنة لتوهم ذلك .

الثالث- تعدية القبول ب ( عن ) لتضمنه معنى التجاوز ، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها : وقيل ( عن ) هنا بمعنى ( من ) كما يقال : أخذت هذا منك وعنك .

الرابع- الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة ، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئا عوض عنه . وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازا مرسلا . وقيل : في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : { خذ } ثم إلى ذاته تعالى – إشارة إلى أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائم مقام أخذ الله ، تعظيما لشأن نبيه ، كقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } {[4638]} .

/ الخامس- جملة { وأن الله هو التواب الرحيم } تأكيد لما عطف عليه ، وزيادة تقرير لما يقرره ، مع زيادة معنى ليس فيه . كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة ، وأن ذلك سنة مستمرة له ، وشأن دائم ؟

لطيفة :

نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر عن حوشب قال : غزا الناس في زمن معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فغلّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية . فلما قفل الجيش ندم ، وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يأتي الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك . فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله ابن الشاعر السكسكيّ ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره . فقال له : أو مطيعي أنت ؟ فقال : نعم . فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين دينارا ، وانظر إلى الثمانين الباقية ، فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل . فقال معاوية : لأن أكون أفتيت بها ، أحب إلي من كل شيء أملكه . أحسن الرجل . انتهى .

في هذه الرواية إثبات ولد لخالد ، وفي ظني أن صاحب ( أسد الغابة ) ذكر أنه لن يعقب ، فليحقق .


[4638]:[48 / الفتح / 10].