{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } الذي يحصل به عقابكم ، لا تستفيدون به شيئًا ، فلو كان إذا حصل ، حصل إمهالكم ، لتستدركوا ما فاتكم ، حين صار الأمر عندكم يقينًا ، لكان لذلك وجه ، ولكن إذا جاء يوم الفتح ، انقضى الأمر ، ولم يبق للمحنة محل ف { لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ } لأنه صار إيمان ضرورة ، { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : يمهلون ، فيؤخر عنهم العذاب ، فيستدركون أمرهم .
يقول تعالى مخبرًا عن استعجال الكفار وقوعَ بأس الله بهم ، وحلول غضبه ونقمته عليهم ، استبعادًا وتكذيبًا وعنادا : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } ؟ أي : متى تنصر علينا يا محمد ؟ كما تزعم أن لك وقتًا تُدَال علينا ، ويُنْتَقم لك منا ، فمتى يكون هذا ؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين !
قال الله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } أي : إذا حَلَّ بكم بأس الله وسَخَطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى ، { لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 83 - 85 ] ، ومَنْ زعم أن المراد من هذا الفتح فتحُ مكة فقد أبعد النَّجْعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح قد قَبِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء ، وقد كانوا قريبًا من ألفين ، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم ؛ لقوله : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } ، وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل ، كقوله تعالى : { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 118 ] ، وكقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] ، وقال تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ إبراهيم : 15 ] ، وقال : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } [ البقرة : 89 ] ، وقال : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] .
فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يومَ الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أملَ الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظاراً لتدارك ما فاتهم ، أي إفادتُهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ { ربنا أبصَرْنا وسمِعْنا فارجعنا نعملْ صالحاً إنّا موقنون } [ السجدة : 12 ] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به { لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [ الأنعام : 158 ] .
ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين : من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح ، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق ، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا .
وإظهار وصف { الذين كفروا في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون متى هذا الفتح } لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم .
ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييساً من إيمان المجادلين منهم المتصدّين للتمويه على دهمائهم . وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتياً لا إعراض مستمر ، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد {يوم الفتح} يعني القضاء.
{لا ينفع الذين كفروا إيمانهم} بالبعث لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان البعث الذي تقول حقا صدقنا يومئذ، فذلك قوله عز وجل: {يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا} بالبعث.
{إيمانهم ولا هم ينظرون} لا يناظر بهم العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم: يوم الحكم ومجيء العذاب، لا ينفع من كفر بالله وبآياته إيمانهم الذي يحدثونه في ذلك الوقت...
وقوله: "وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ "يقول: ولا هم يؤخرون للتوبة والمراجعة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا هم ينظرون} يقول: لا يناظر بهم بالعذاب حين يعذبون.
أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة، لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا، ولا ينظرون، أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله: {قل} أي لهؤلاء اللد الجهلة: {يوم الفتح} أي الذي تستهزئون به، وهو يوم القيامة -تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان وهو معنى {لا} ينفعكم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {ينفع الذين كفروا} أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف {إيمانهم} لأنه ليس إيماناً بالغيب، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم {ولا هم ينظرون} أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قُلْ} تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم،للتَّنبيهِ على أنَّه ليس ممَّا ينبغِي أنْ يسألَ عنه، لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به، وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل: لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
سواء كان هذا اليوم في الدنيا. إذ يأخذهم الله وهم كافرون، فلا يمهلهم بعده، ولا ينفعهم إيمانهم فيه. أو كان هذا اليوم في الآخرة إذ يطلبون المهلة فلا يمهلون: وهذا الرد يخلخل المفاصل، ويزعزع القلوب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن يومَ الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل، وحينئذ ينقطع أملَ الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظاراً لتدارك ما فاتهم، أي إفادتُهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح؛ لأنهم يقولون يومئذ {ربنا أبصَرْنا وسمِعْنا فارجعنا نعملْ صالحاً إنّا موقنون} [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس، وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه، أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به {لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158].
ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا، وإظهار وصف {الذين كفروا في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون متى هذا الفتح} لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم...
أي: لم تسألون عن يوم الفتح؟ وماذا ينفعكم العلم به؟ إن يوم الفتح إذا جاء أسدل الستار على جرائمكم، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن ينظركم الله إلى وقت آخر.
ومعلوم أن الإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كانت لديه فسحة من الوقت، أما الإيمان الذي يأتي في النزع الأخير، وإذا بلغت الروح الحلقوم فهو كإيمان فرعون الذي قال حين أدركه الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس] فردّ الله عليه هذا الإيمان {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس]. الآن لا ينفع منك إيمان؛ لأنك مقبل على الله، وقد فات أوان العمل، وحلّ أول الحساب، الإيمان أن تؤمن وأنت حريص صحيح تستقبل الحياة وتحبها، الإيمان أن تؤمن عن طواعية.