ومع هذا { فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي : مغتبطين بذلك ، قد قرت به عيونهم ، وفرحت به نفوسهم ، وذلك لحسنه وكثرته ، وعظمته ، وكمال اللذة في الوصول إليه ، وعدم المنغص ، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق ، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله : فتم لهم{[174]} النعيم والسرور ، وجعلوا { يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } أي : يبشر بعضهم بعضا ، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ، وأنهم سينالون ما نالوا ، { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي : يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور
وقوله : { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ] {[6172]} } أي : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله ، وهم فَرحون{[6173]} مما هم فيه من النعمة والغبطة ، ومستبشرون{[6174]} بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم ، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم .
قال محمد بن إسحاق { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي : ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم{[6175]} من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم ؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم .
[ و ]{[6176]} قال السدي : يُؤتى الشهيد بكتاب فيه : " يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا ، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ " {[6177]} .
وقال سعيد بن جبير : لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا للقتال{[6178]} باشروها بأنفسهم ، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم - أي ربهم - [ أني ]{[6179]} قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم ، وما أنتم فيه ، فاستَبْشروا بذلك ، فذلك قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } الآية .
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس ، رضي الله عنه ، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من الأنصار ، الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم ، يدعو عليهم ويَلْعَنهم ، قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع : " أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا " {[6180]} .
{ يستبشرون } معناه : يسرون ويفرحون ، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى ا ستغنى الله واستمجد المرخ والعفار{[3713]} ، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم : إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك ، إذ يحصلون{[3714]} لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك : إلى أن الإشارة في قوله : { بالذين لم يلحقوا } إلى جميع المؤمنين ، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله ، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، { ويستبشرون } للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون « ، و { ألا } مفعول من أجله ، التقدير ، بأن لا خوف ، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال .
قولُه : { فرحين } حال من ضمير { يرزقون } .
والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين .
فالمراد { بالذين لم يلحقوا بهم } رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة .
و { من خلفهم } تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة مِن رفاقهم بأَمْنِهم وانتفاءِ ما يُحْزنهم . وقوله : { ألا خوف عليهم } بدل اشتمال ، و ( لا ) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يُبن اسم ( لا ) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع : « زوجي كلَيْلِ نِهَامَة ، لا حرٌّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سَآمَهْ » برفع الأسماء النكرات الثلاثة .
وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا . وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّاً الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها . وقد يكون عامّاً لِجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حَصَر اللذّة الحقيقية في المعارف . وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة .
وفي الآية بشارة لأصحاب أُحُد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.