47- ويأخذ الغرور كفار مكة فلا يبالون مع قيام هذه العبر ، فيستعجلونك - أيها النبي - بوقوع ما توعدتهم به من العذاب تحدياً واستهزاء ، وهو لا محالة واقع بهم ، ولكن في موعد قدَّره الله في الدنيا أو في الآخرة ، ولن يخلف وعده بحال ولو طالت السنون ، فإن يوماً واحداً عنده يماثل ألف سنة مما تقدرون وتحسبون{[135]} .
{ 47 - 48 } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
أي : يستعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب ، لجهلهم ، وظلمهم ، وعنادهم ، وتعجيزا لله ، وتكذيبا لرسله ، ولن يخلف الله وعده ، فما وعدهم به من العذاب ، لابد من وقوعه ، ولا يمنعهم منه مانع ، وأما عجلته ، والمبادرة فيه ، فليس ذلك إليك يا محمد ، ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا . فإن أمامهم يوم القيامة ، الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم ، ويجازون بأعمالهم ، ويقع بهم العذاب الدائم الأليم ، ولهذا قال : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } من طوله ، وشدته ، وهو له ، فسواء أصابهم عذاب في الدنيا ، أم تأخر عنهم العذاب ، فإن هذا اليوم ، لا بد أن يدركهم .
ويحتمل أن المراد : أن الله حليم ، ولو استعجلوا العذاب ، فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون ، فالمدة ، وإن تطاولتموها ، واستبطأتم فيها نزول العذاب ، فإن الله يمهل المدد الطويلة ولا يهمل ، حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم .
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه{[20333]} : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أي : هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون{[20334]} بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ، كما قال [ الله ]{[20335]} تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ] .
وقوله : { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : الذي قد وَعَد ، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه .
قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاء عمرو بن عبيد ، فقال : يا أبا عمرو ، وهل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا . فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن{[20336]} العجم أنت ؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، أومَا سمعتَ قول الشاعر{[20337]} :
لا يُرْهِبُ ابنَ العم منى{[20338]} سَطْوَتي *** ولا أخْتَتِي{[20339]} من سَطْوة المُتَهَدّد
فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه *** لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي
وقوله : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي : هو تعالى لا يَعجَل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه ، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء ، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عَرَفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، خمسمائة عام " .
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث الثوري ، عن محمد بن عمرو ، به{[20340]} . وقال الترمذي : حسن صحيح . وقد رواه ابن جرير ، عن أبي هريرة موقوفا{[20341]} ، فقال :
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا سعيد الجُرَيري ، عن أبي نَضْرَة ، عن سُمَيْر بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم . قلت : وما نصف يوم ؟ قال : أوَ ما تقرأ القرآن ؟ . قلت : بلى . قال : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ }{[20342]} .
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، عن شُرَيح بن{[20343]} عُبَيد ، عن سعد بن أبي وَقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها ، أن يؤخرهم نصف يوم " . قيل لسعد : وما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة{[20344]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان{[20345]} ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض .
رواه ابن جرير ، عن ابن بَشّار{[20346]} ، عن ابن مهدي{[20347]} . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب " الردّ على الجهمية " .
وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارم - محمد بن الفضل - حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن عَتِيق ، عن محمد بن سيرين ، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال : إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } وجعل أجل الدنيا ستة أيام ، وجعل الساعة في اليوم السابع ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } ، فقد مضت الستة الأيام ، وأنتم في اليوم السابع . فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ، في أية لحظة ولدت كان تماما .
{ ويستعجلونك بالعذاب } المتوعد به . { ولن يخلف الله وعده } لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة . { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال ، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقية ، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء .
والضمير في { يستعجلونك } لقريش ، وقوله { ولن يخلف الله وعده } ، وعد ووعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود ، و «الوعد » هنا مقيد بالعذاب فلذلك ، ورد في مكروه ، وقوله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة } ، قالت فرقة : معناه { وإن يوماً } من أيام عذاب الله { كألف سنة } مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه ، فكأن المعنى فما أجهل من يستعجل هذا وقالت فرقة معناه { وإن يوماً } عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذه قدرته { كألف سنة } عندكم ع وهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة وإلى مالا نهاية له من العدد في حكم الألف ولكنهم قالوا ذكر الألف لأنه منتهى العدد كون تكرار فاقتصر عليه ع وهذا التأويل لا يناسب الآية{[8405]} ، وقالت فرقة : أن المعنى أن اليوم عند الله كألف سنة من هذا العدد ، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
«إني لأرجو أن تؤخر أمتي نصف يوم »{[8406]} ، وقوله «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم » ذلك خمسمائة سنة{[8407]} ، ومنه قول ابن عباس : مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة فكأن المعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله .