ف { قَالَ } موسى عليه السلام -مجيبا له فيما طلبه منه- : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : هذا الشرط ، الذي أنت ذكرت ، رضيت به ، وقد تم فيما بيني وبينك . { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } سواء قضيت الثماني الواجبة ، أم تبرعت بالزائد عليها { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } حافظ يراقبنا ، ويعلم ما تعاقدنا عليه .
وهذا الرجل ، أبو المرأتين ، صاحب مدين ، ليس بشعيب النبي المعروف ، كما اشتهر عند كثير من الناس ، فإن هذا ، قول لم يدل عليه دليل ، وغاية ما يكون ، أن شعيبا عليه السلام ، قد كانت بلده مدين ، وهذه القضية جرت في مدين ، فأين الملازمة بين الأمرين ؟
وأيضا ، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ، فكيف بشخصه ؟ " ولو كان ذلك الرجل شعيبا ، لذكره اللّه تعالى ، ولسمته المرأتان ، وأيضا فإن شعيبا عليه الصلاة والسلام ، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه ، ولم يبق إلا من آمن به ، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم ، بمنعهما عن الماء ، وصد ماشيتهما ، حتى يأتيهما رجل غريب ، فيحسن إليهما ، ويسقي ماشيتهما ، وما كان شعيب ، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له ، وهو أفضل منه وأعلى درجة ، والله أعلم ، [ إلا أن يقال : هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ]{[600]} .
وقوله تعالى إخبارا عن موسى ، عليه السلام : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ، يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشرًا فمن عندي ، فأنا متى فعلت أقلهما [ فقد ]{[22276]} برئت من العهد ، وخرجت من الشرط ؛ ولهذا قال : { أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي : فلا حرج علي مع أن الكامل - وإن كان مباحًا لكنه فاضل من جهة أخرى ، بدليل من خارج . كما قال [ الله ]{[22277]} تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي ، رضي الله عنه ، وكان كثير الصيام ، وسأله عن الصوم في السفر - فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " {[22278]} مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر .
هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام ، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما ؛ قال البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مَرْوان بن شُجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه . فقدمت فسألت ابن عباس ، رضي الله عنه ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . هكذا رواه البخاري{[22279]} وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره ، عن سعيد بن جبير . ووقع في " حديث الفُتُون " ، من رواية القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ؛ أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية . والأول أشبه ، والله أعلم ، وقد رُوي من{[22280]} حديث ابن عباس مرفوعا ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألت جبريل : أيّ الأجلين قضى موسى قال : أكملهما وأتمهما " {[22281]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن الحميدي ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب - وكان من أسناني أو أصغر مني - فذكره .
قلت : وإبراهيم هذا ليس بمعروف .
ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . ثم قال : لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه{[22282]} .
وقال{[22283]} ابن أبي حاتم : قُرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن يوسف بن تيرح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : " لا علم لي " . فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، فقال جبريل : لا علم لي ، فسأل جبريل ملكا فوقه فقال : لا علم لي . فسأل{[22284]} ذلك المَلَك ربه - عز وجل - عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب سبحانه وتعالى : " قضى أبرهما وأبقاهما - أو قال : أزكاهما " {[22285]} .
وهذا مرسل ، وقد جاء مرسلا من وجه آخر ، وقال{[22286]} سُنَيد : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج قال : قال مجاهد : إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل : " أيّ الأجلين قضى موسى ؟ " فقال : سوف أسأل إسرافيل . فسأله فقال : سوف أسأل الرب عز وجل . فسأله فقال : " أبرهما وأوفاهما " {[22287]} .
طريق أخرى مرسلة أيضا : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن محمد بن كعب القُرظي قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : " أوفاهما وأتمهما " {[22288]} .
فهذه طرق متعاضدة ، ثم قد{[22289]} روي [ هذا ]{[22290]} مرفوعا من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عَوْبَد بن أبي عمران الجَوْني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال : " أوفاهما وأبرهما " ، قال : " وإن سئلتَ أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما " .
ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد{[22291]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَد بن أبي عمران - وهو ضعيف - ثم قد روي أيضا نحوه من حديث عتبة بن الندر{[22292]} بزيادة غريبة جدا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ، حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر{[22293]} يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال : " أبرهما وأوفاهما " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن موسى ، عليه السلام ، لما أراد فراق شعيب عليه السلام ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به . فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالِب لَون . قال : فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه ، فولدت قَوَالب ألوان كلها ، وولدت ثنتين وثلاثًا كل شاة ليس فيها فَشُوش ولا ضبُوب ، ولا كَمِيشة تُفَوّت الكف ، ولا ثَعُول " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا{[22294]} افتتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها ، وهي السامرية " {[22295]} .
هكذا أورده البزار . وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا{[22296]} فقال :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير ، حدثني عبد الله بن لهيعة( ح ) وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النُّدّر{[22297]} السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن موسى ، عليه السلام{[22298]} آجر نفسه بعفة فرجه وطُعمة بطنه . فلما وفى الأجل - قيل : يا رسول الله ، أي الأجلين ؟ قال - أبرهما وأوفاهما . فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب{[22299]} لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء حسناء ، فانطلق موسى ، عليه السلام إلى عصاه فَسَمَّاها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : " فأتأمت وأثلثت ، ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش . قال يحيى : ولا ضبون . وقال صفوان : ولا ضبُوب . قال أبو زرعة : الصواب ضَبُوب - ولا عَزُوز ولا ثَعُول ، ولا كميشة تُفَوّت الكف " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية " .
وحدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان قال : سمعت الوليد قال : فسألت ابن لَهِيعة : ما الفشوش ؟ قال : التي تَفُشّ بلبنها واسعة الشَّخب . قلت : فما الضبوب ؟ قال : الطويلة الضرع تجره . قلت : فما العَزُوز ؟ قال : ضيقة الشَّخب . قال فما الثَعُول ؟ قال : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين . قلت : فما الكميشة ؟ قال : التي تُفَوّت الكف ، كميشة الضرع ، صغير لا يدركه الكف .
مدار هذا الحديث على عبد الله بن لَهِيعة المصري - وفي حفظه سوء - وأخشى أن يكون رفعه خطأ ، والله أعلم . وينبغي أن يُرْوَى ليس فيها فشوش ولا عزوز ، ولا ضبوب ولا ثَعول ولا كميشة ، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة . وقد روى ابن جرير من{[22300]} كلام أنس بن مالك - موقوفا عليه - ما يقارب بعضه بإسناد جيد{[22301]} ، فقال : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما دعا نبي الله موسى ، عليه السلام ، صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فذلك ولدها لك . فعمد فرفع حبالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقًا إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهن ذلك العام{[22302]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ وموسى لأبي المرأتين ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي هذا الذي قلت من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حِجَج ، واجب بيني وبينك ، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه .
وقوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ يقول : أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجج قضيت ، يقول : فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك فَلا عُدْوَانَ عَليّ يقول : فليس لك أن تعتدي عليّ ، فتطالبني بأكثر منه ، و«ما » في قوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ صلة يوصل بها أيّ على الدوام ، وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أيّ ، وأنشد قول الشاعر :
وأيّهُما ما أتْبَعَنّ فإنّنِي *** حَرِيصٌ عَلى أثْرِ الّذِي أنا تابِعُ
فَأَيّي ما وأيّكَ كانَ شَرّا *** فَقِيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال موسى ذلكَ بَيْني وبَيْنَكَ أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : نعم . واللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فزوّجه ، وأقام معه يكفيه ، ويعمل له في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه منه ، وزوجة موسى صفورا أو أختها : شرفا أو لَيّا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال ابن عباس الجارية التي دعته هي التي تزوّج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال له إنّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتيّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي . . . إلى آخر الاَية ، قال : وأيتهما تريد أن تنكحني ؟ قال : التي دعتك ، قال : لا . ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها ، فقال : هي عندك كذلك ، فزوّجه . وبنحو الذي قلنا في قوله : أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَ ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ إما ثمانيا ، وإما عشرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل قال أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : فقال القاسم : ما أبالي أيّ ذلك كان ، إنما هو موعد وقضاء .
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يقول : والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول ، شهيد وحفيظ . كالذي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال : شهيد على قول موسى وخَتَنه . وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد ، أمر إحدى ابنتيه أن تعطِيَ موسى عصا من العصيّ التي تكون مع الرعاة ، فأعطته إياه ، فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية . وقال بعضهم تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر يعني أبا المرأتين إحدى ابنتيه أن تأتيه ، يعني أن تأتيَ موسى بعصا ، فأتته بعصا ، وكانت تلك العصا عصا استودعها إياه مَلَك في صورة رجل ، فدفعها إليه ، فدخلت الجارية ، فأخذت العصا ، فأتته بها فلما رآها الشيخ قال : لا ، ائتيه بغيرها ، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها ، فلا يقع في يدها إلاّ هي ، وجعل يردّدها ، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها فلما رأى ذلك عمد إليها ، فأخرجها معه ، فَرعَى بها . ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فخرج يتلقى موسى ، فلما لقيه قال : أعطني العصا ، فقال موسى : هي عَصَاي ، فأبى أن يعطيه ، فاختصما ، فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقال : ضعوها في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، وأخذ موسى بيده فرفعها ، فتركها له الشيخ ، فرعَى له عشر سنين . قال عبد الله بن عباس . كان موسى أحقّ بالوفاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال يعني أبا الجارية لما زوّجها لموسى : أدخل ذلك البيت فخذ عصا ، فتوكأ عليها ، فدخل ، فلما وقف على باب البيت ، طارت إليه تلك العصا ، فأخذها ، فقال : اردُدها وخذ أخرى مكانها ، قال : فردّها ، ثم ذهب ليأخذ أخرى ، فطارت إليه كما هي ، فقال : لا أردها ، فعل ذلك ثلاثا ، فقال : ارددها ، فقال : لا أجد غيرها اليوم ، فالتفت إلى ابنته ، فقال لابنته : إن زوجك لنبيّ . ذكر من قال التي كانت آيةً عصا أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، قال : سألت عكرِمة قال : أما عصا موسى ، فإنها خرج بها آدم من الجنة ، ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام ، فلقي موسى بها ليلاً ، فدفعها إليه .
لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج ، و { أيما } استفهام نصبه ب { قضيت } وما صلة للتأكيد ، وقرأ الحسن «أيْما » بسكون الياء ، وقرأ ابن مسعود «أي الأجلين ما قضيت » ، وقرأ الجمهور «فلا عُدوان » بضم العين وقرأ أبو حيوة «فلا عِدوان » بكسر العين ، والمعنى لا تبعة علي من قول ولا فعل ، و «الوكيل » الشاهد القائم بالأمر ، قال ابن زيد : ولما كمل هذا النكاح بينهما أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت له فيه عصيّ وفيه هذا العصا ، فروي أن العصا وثبت إلى موسى فأخذها وكانت عصا آدم وكانت من عير ورقة الريحان ، فروي أن شعيباً أمره بردها ففعل وذهب يأخذ غيرها ، فوثبت إليه ، وفعل ذلك ثالثة ، فلما رأى شعيب ذلك علم أنه يرشح للنبوءة فتركها له ، وقيل إنما تركها له لأنه أمر موسى بتركها ، فأبى موسى ذلك فقال له شعيب : نمد إليها جميعاً فمن طاوعته فهي له ، فمد إليها شعيب يده فثقلت ، ومد إليها موسى فخفت ووثبت إليه ، فعلما أن هذا من الترشيح ، وقال عكرمة : إن عصا موسى إنما دفعها إليه جبريل ليلاً عند توجهه إلى مدين .
وجملة { قال ذلك بيني وبينك } حكاية لجواب موسى عن كلام شعيب . واسم الإشارة إلى المذكور وهو { أن تأجرني ثماني حجج } إلى آخره . وهذا قبول موسى لما أوجبه شعيب وبه تم التعاقد على النكاح وعلى الإجارة ، أي الأمر على ما شرطت علي وعليك . وأطلق { بيني وبينك } مجازاً في معنى الثبوت واللزوم والارتباط ، أي كل فيما هو من عمله .
و { أيما } منصوب ب { قضيت } . و ( أي ) اسم موصول مبهم مثل ( ما ) . وزيدت بعدها ( ما ) للتأكيد ليصير الموصول شبيهاً بأسماء الشرط لأن تأكيد ما في اسم الموصول من الإبهام يكسبه عموماً فيشبه الشرط فلذلك جعل له جواب كجواب الشرط . والجملة كلها بدل اشتمال من جملة { ذلك بيني وبينك } لأن التخيير في منتهى الأجل مما اشتمل عليه التعاقد المفاد بجملة { ذلك بيني وبينك } .
والعدوان بضم العين : الاعتداء على الحق ، أي فلا تعتدي علي . فنفى جنس العدوان الذي منه عدوان مستأجره . واستشهد موسى على نفسه وعلى شعيب بشهادة الله .
وأصل الوكيل : الذي وكل إليه الأمر ، وأراد هنا أنه وكل على الوفاء بما تعاقدا عليه حتى إذا أخل أحدهما بشيء كان الله مؤاخذه . ولما ضمن الوكيل معنى الشاهد عدي بحرف { على } وكان حقه أن يعدى ب ( إلى ) .
والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى { ولما توجه تلقاء مدين } [ القصص : 22 ] إلى قوله { والله على ما نقول وكيل } [ القصص : 28 ] هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلّبه في أطوار الفضائل ، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته ، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف ، وإغاثة الملهوف ، والرأفة بالضعيف ، والزهد ، والقناعة ، وشكر ربه على ما أسدى إليه ، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين ، والعمل لهم ، والوفاء بالعقد ، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوءة التي أبداها شعيب من حب القرى ، وتأمين الخائف ، والرفق في المعاملة ، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته ، وزكاء سريرته ، وإعانته على نوائب الحق ، وتزوجه بأفضل امرأة من نساء قومه ، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لانهطال سحاب الوحي عليه .
والله أعلم حيث يجعل رسالاته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوءة والصلاح .