اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ذَٰلِكَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَۖ أَيَّمَا ٱلۡأَجَلَيۡنِ قَضَيۡتُ فَلَا عُدۡوَٰنَ عَلَيَّۖ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ} (28)

قوله : «ذَلِكَ » مبتدأ ، والإشارة به إلى ما تعاقدا{[40130]} عليه ، والظرف خبره{[40131]} ، وأضيفت «بَيْنَ » لمفرد لتكررها عطفاً بالواو ، فإن قلت : المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز ، وأما قوله :

3989 - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ{[40132]} *** . . .

فكان{[40133]} الأصمعي يأباها ، ويروي «وحومل » بالواو ، والصحيح بالفاء ، وأول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن ، نحو قولك : دارِي بين مصر ، لأنه يريد به المكان الجامع{[40134]} ، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف .

قوله : «أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ » أي شرطية وجوابها «فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ »{[40135]} . وفي «مَا » هذه قولان :

أشهرهما : أنها زائدة{[40136]} ، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط .

والثاني : أنها نكرة ، و «الأَجَلَيْنِ » بدل منها{[40137]} .

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «أَيْمَا » بتخفيف الياء{[40138]} كقوله :

3990 - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا *** . . . عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه{[40139]}

وقرأ عبد الله { أيَّ الأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْت } بإقحام «مَا » بين «الأَجَلَيْن » و «قَضَيْتُ »{[40140]} .

قال الزمخشري{[40141]} : فإن قلت : ما الفرق بين موقع زيادة «مَا »{[40142]} في القراءتين{[40143]} ؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، «أَيْ » زيادة في شياعها ، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال : أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له{[40144]} .

وقرأ أبو حيوة وابن قُطَيب «عِدْوانَ »{[40145]} . قال الزمخشري : فإن قلت : تصوُّر العدوان إنما هو في أحد{[40146]} الأجلين الذي هو أقصرهما ، وهو المطالبة بتتمة العشر{[40147]} ، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً ؟ قلت : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر ( كان عدواناً ){[40148]} لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني{[40149]} ، أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه{[40150]} ثابت مستقر ، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا ، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً{[40151]} إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار ، ثم قال : وقيل : معناه فلا أكون متعدِّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك : لا إثم عليَّ ولا تبعة{[40152]} .

قال أبو حيان : وجوابه الأول فيه تكثير{[40153]} . قال شهاب الدين : كأنه أعجبه الثاني{[40154]} . والثاني{[40155]} لم يرتضه الزمخشري ، لأنه ليس جواباً في الحقيقة ، فإن السؤال باق أيضاً ، ولذلك نقله عن غيره{[40156]} ، وقال المبرد : وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء{[40157]} .

فصل :

قال المفسرون : المعنى «أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ » أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قال مقاتل{[40158]} : شهيد فيما بيني وبينك ، وقيل : حفيظ{[40159]} ، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي ب ( عَلَى ){[40160]} قال سعيد بن جبير : سألني يهودي من أهل الحيرة : أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله ، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال : قَضَى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل{[40161]} .

وروي عن أبي ذر مرفوعاً «إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى ؟ فقل{[40162]} خيرهُما وأبرَّهما ، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى ؟ فقل الصغرى منهما{[40163]} ، وهي التي جاءت فقالت : { يا أبت استأجره } فتزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما »{[40164]} وقال{[40165]} وهب : أنكَحَه الكُبْرى{[40166]} . ولمَّا تعاقدا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع{[40167]} بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا .

فقال عكرمة : عرج بها آدم من الجنة ، فأخذها جبريل بعد موت آدم ، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً ، فدفعها إليه ، قيل : كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة ، فتوارثتها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى{[40168]} ، وقال السُّدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا ، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : رُدِّي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فدخلت وألقتها ، وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلا تقع{[40169]} في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات ، فأعطاها موسى ، وأخرجها موسى معه{[40170]} ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا ، فأبى موسى أن يعطيه وقال : { هِيَ عَصَايَ } [ طه : 18 ] ، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل ، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها ، فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده ، فرفعها فتركها له الشيخ{[40171]} ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه{[40172]} ، قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك ( عند صهره عشراً ){[40173]} أخرى فأقام{[40174]} عنده عشرين سنة ،


[40130]:في الأصل: تعاقد.
[40131]:انظر الكشاف 3/1019، البحر المحيط 7/115.
[40132]:جزء بيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس، وهو مطلع معلقته، وتمامه: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللِّوى بين الدَّخول فحومل وقد تقدم.
[40133]:في الأصل: كان.
[40134]:يريد على التأويل: داري بين قرى مصر.
[40135]:انظر البيان 2/231، التبيان 2/231.
[40136]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/159، البيان 2/231.
[40137]:ونسب لابن كيسان. انظر إعراب القرآن 2/159، القرطبي 13/279.
[40138]:انظر المختصر (112)، المحتسب 2/150، البحر المحيط 7/115، الإتحاف (342).
[40139]:البيت من بحر الطويل قاله الفرزدق، وهو في ديوانه 1/281، المحتسب 1/41، 2/152 الكشاف 3/164، شرح الكافية الشافية 1/328، المغني 1/77، البحر المحيط 7/115، شرح شواهد المغني 1/326.
[40140]:انظر معاني القرآن للفراء 2/305، المختصر (112)، الكشاف 3/164، البحر المحيط 7/115.
[40141]:قال الزمخشري: مكرر في ب.
[40142]:في الكشاف: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة.
[40143]:في ب: الموضعين.
[40144]:الكشاف 3/164.
[40145]:بكسر العين. المختصر (112)، البحر المحيط 7/115.
[40146]:في ب: إحدى.
[40147]:في ب: وهو للطالب تتمة للعشر.
[40148]:ما بين القوسين تكملة من الكشاف.
[40149]:في ب: الثمان.
[40150]:في ب: أمر الخيار أنه.
[40151]:في ب: مأكولا.
[40152]:الكشاف 3/164. بتصرف يسير.
[40153]:البحر المحيط 7/116.
[40154]:في ب: الباقي. وهو تحريف.
[40155]:يشير بقوله: (الثاني) إلى قول الزمخشري: وقيل: معناه فلا أكون متعدياً...
[40156]:الدر المصون 5/317.
[40157]:انظر البحر المحيط 7/115.
[40158]:في ب: قال ابن عباس ومقاتل.
[40159]:انظر البغوي 6/334.
[40160]:انظر الكشاف 3/164.
[40161]:أخرجه البخاري (شهادات) 2/109، وانظر البغوي 6/334-335.
[40162]:في ب: فقيل.
[40163]:في ب: فقيل أصغرهما.
[40164]:انظر البغوي 6/335، تفسير ابن كثير 3/386.
[40165]:وقال: سقط من ب.
[40166]:انظر البغوي 6/335.
[40167]:في ب: فدفع. وهو تحريف.
[40168]:انظر البغوي 6/335-336.
[40169]:في ب: تمنع. وهو تحريف.
[40170]:في ب: معها. وهو تحريف.
[40171]:انظر البغوي 6/336.
[40172]:انظر البغوي 6/336-337.
[40173]:ما بين القوسين في ب: عنده عشر.
[40174]:في الأصل: وأقام.