{ 18 - 20 } { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
ينبه تعالى ، العقول على ما تقرر فيها ، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين ، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما فقال : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا } قد عمر قلبه بالإيمان ، وانقادت جوارحه لشرائعه ، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته ، من ترك مساخط اللّه ، التي{[684]} يضر وجودها بالإيمان .
{ كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } قد خرب قلبه ، وتعطل من الإيمان ، فلم يكن فيه وازع ديني ، فأسرعت جوارحه بموجبات الجهل والظلم ، من كل إثم ومعصية ، وخرج بفسقه عن طاعة الله .
{ لَا يَسْتَوُونَ } عقلاً وشرعًا ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلمة ، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة .
يخبر تعالى عن عدله [ وكرمه ]{[31]} أنه لا يساوي في حُكمه يوم القيامة مَنْ كان مُؤمنًا بآياته متبعًا لرسله ، بمن كان فاسقا ، أي : خارجا عن طاعة ربه مكذِّبًا لرُسُله إليه{[32]} ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ } أي : عند الله يوم القيامة . وقد ذكر عطاء بن يَسَار والسُّدِّيّ وغيرهما : أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، وعقبة بن أبي مُعَيط ؛ ولهذا فَصَّل حكمهم فقال : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ * أَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَىَ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أفهذا الكافر المكذّب بوعد الله ووعيده ، المخالف أمر الله ونهيه ، كهذا المؤمن بالله ، المصدّق بوعده ووعيده ، المطيع له في أمره ونهيه ؟ كلا لا يستوون عند الله . يقول : لا يعتدل الكفّار بالله ، والمؤمنون به عنده ، فيما هو فاعل بهم يوم القيامة . وقال : لا يَسْتَوُونَ فجمع ، وإنما ذكر قبل ذلك اثنين : مؤمنا ، وفاسقا ، لأنه لم يرد بالمؤمن : مؤمنا واحدا ، وبالفاسق : فاسقا واحدا ، وإنما أريد به جميع الفسّاق ، وجميع المؤمنين بالله . فإذا كان الاثنان غير مصمود لهما ، ذهبت بهما العرب مذهب الجمع .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في عليّ بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، والوليد بن عُقبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت بالمدينة ، في عليّ بن أبي طالب ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط كان بين الوليد وبين عليّ كلام ، فقال الوليد بن عقبة : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأردّ منك للكتيبة ، فقال عليّ : اسكت ، فإنك فاسق ، فأنزل الله فيهما : أفمَنْ كانَ مُؤْمِنا كمَنْ كانَ فاسِقا لا يَسْتَوُونَ . . . إلى قوله بِهِ تُكَذّبُونَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله أفمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كمَنْ كانَ فاسِقا لا يَسْتَوُونَ قال : لا والله ما استووا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في الاَخرة .
وقوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً } الآية ، روي عن عطاء بن يسار أنها نزلت في علي بن أبي طالب : والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك أنهما تلاحيا فقال لها الوليد : أنا أبسط منك لساناً وأحد سناناً وأرد للكتيبة ، فقال له علي بن أبي طالب : اسكت فإنك فاسق ، فنزلت الآية{[9431]} .
وذكر الزجاج والنحاس وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط ، وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدينة وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر ، ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان فيه أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن حتى نزلت فيه { إن جاءكم فاسق بنبأ }{[9432]} [ الحجرات : 6 ] ويحتمل أيضاً أن تطلق الشريعة ذلك عليه لأنه كان على طرف مما يبغي وهو الذي شرب الخمر في خلافة عثمان وصلى الصبح بالناس أربعاً ثم التفت وقال : أتريدون أن أزيدكم ونحو هذا مما يطول ذكره .
فُرع بالفاء على ما تقدم من الآيات من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين استفهام بالهمزة مستعمل في إنكار المساواة بين المؤمن والكافر ، وهو إنكار بتنزيل السامع منزلة المتعجب من البَون بين جزاء الفريقين في ذلك اليوم فكانَ الإنكار موجهاً إلى ذلك التعجب في معنى الاستئناف البياني . والكاف للتشبيه في الجزاء .
وجملة { لا يستوون } عطف بيان للمقصود من الاستفهام .
والفاسق هنا هو : مَن ليس بمؤمن بقرينة قوله بعده { وقيل لهم ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذبون } . فالمراد : الفسق عن الإيمان الذي هو الشرك وهو إطلاق كثير في القرآن . ثم أكد كِلا الجزاءين بذكر مرادف لمدلوله مع زيادة فائدة ، فجملةُ { فلهم جنات المأوى } إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة { فلا تعلم نفس ما أخْفِي لهم } [ السجدة : 17 ] إلى آخرها .
وجملة { فمأواهم النار } إلى آخرها مؤكدة لمضمون جملة { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إلى بما كنتم تعملون } [ السجدة : 14 ] .
و { مَن } الموصولة في الموضعين عامة بقرينة التفصيل بالجمع في قوله { أمَّا الذينَ آمنوا } الخ . و { أما الذين فسقوا } . فليست الآية نازلة في معيَّن كما قيل .