الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به .
والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله وحق عباده{[1476]} ، الواجبة والمستحبة .
والتواصي بالحق ، الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضًا بذلك ، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه .
والتواصي بالصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة .
فبالأمرين الأولين ، يكمل الإنسان{[1477]} نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح [ العظيم ] .
{ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } وهو أداء الطاعات ، وترك المحرمات ، { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } على المصائب والأقدار ، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر . آخر تفسير سورة " العصر " ولله الحمد والمنة .
{ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ } يقول : إلاّ الذين صدّقوا الله ووحّدوه ، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة ، وعملوا الصالحات ، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه ، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه ، واستثنى الذين آمنوا عن الإنسان ؛ لأن الإنسان بمعنى الجمع ، لا بمعنى الواحد .
وقوله : { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } يقول : وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه ، من أمره ، واجتناب ما نهى عنه فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } والحقّ : كتاب الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } قال : الحقّ كتاب الله .
حدثني عمران بن بكّار الكُلاعِيّ ، قال : حدثنا خطاب بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سنان أبو رَوْح السّكونيّ ، حِمْصيّ لقيته بإرمينية ، قال : سمعت الحسن يقول في { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } قال : الحقّ : كتاب الله .
وقوله : { وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ } يقول : وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ } قال : الصبر : طاعة الله .
حدثني عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : حدثنا خطاب بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله { وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ } قال : الصبر : طاعة الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن { وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ } قال : الصبر : طاعة الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى ، فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فليسوا في خسران ، ثم نعتهم ، فقال :{ وتواصوا بالحق } يعني بتوحيد الله عز وجل ، { وتواصوا بالصبر } يعني على أمر الله عز وجل ، فمن فعل هذين كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فليسوا من الخسران في شيء ، ولكنهم في الجنان مخلدون . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ } يقول : إلاّ الذين صدّقوا الله ووحّدوه ، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة ، "وعملوا الصالحات" ، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه ، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه ...
وقوله : { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } يقول : وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه ، من أمره ، واجتناب ما نهى عنه فيه ...
وقوله : { وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ } يقول : وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لقائل أن يقول : كيف استثنى أهل الربح من أهل الخسران ، ولم يستثن أهل الخسران من أهل الربح ؟
فنقول : إن الإنسان لفي ربح إلا الذين كفروا ، واستثناء هذه الفرقة من تلك أولى في العقول من تلك . والجواب عن هذا أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقوم أجمعهم كانوا أهل كفر وخسار ، فكذلك وقع الاستثناء على ما ذكر ، إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة ، وإن كان الكثير في حد الجواز ، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة . ثم قوله تعالى : { إن الإنسان } اسم جنس فكأنه أراد جميع الناس . ألا ترى أنه قال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ؟ ولا تستثنى الجماعة من الفرد ، فكأنه يقول على هذا : إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر .
وقوله تعالى : { وعملوا الصالحات } يحتمل أن يكون تأويله { الصالحات } التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره . ألا ترى أنه قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ؟ ( آل عمران : 110 ) يقول : المعروف ، هو المعروف الذي هو معروف في الطبع والعقل ، والمنكر الذي ينكره العقل ، وينفر عنه الطبع . وإن كان المراد منه الكفر فكأنه قال : إن الكافرين في هلاك وخسران إلا من آمن بالله تعالى ورسله ، وعمل صالحا . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى : أن الناس في خسران من تجارتهم إلاّ الصالحين وحدهم ؛ لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، فربحوا وسعدوا ، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم ، فوقعوا في الخسارة والشقاوة { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله : من توحيد الله وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة. { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } عن المعاصي وعلى الطاعات ، على ما يبلو الله به عباده . ...
إن هذا الاستثناء فيه أمور ثلاثة؛
( أحدها ) : أنه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه ، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه.
( وثانيها ) : أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح ، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد ...
قوله تعالى : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } .
فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضا سببا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل ، والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب ، وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه ، والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية فيها وعيد شديد ، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة ، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور ، منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه ، والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر ، ومنه قوله : { وانه عن المنكر واصبر } وقال عمر : رحم الله من أهدى إلي عيوبي .
المسألة الثانية : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فلذلك قرن به التواصي .
المسألة الثالثة : إنما قال : { وتواصوا } ولم يقل : ويتواصون لئلا يقع أمرا، بل الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي ، وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إلا الذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات ، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر...: { وعملوا } أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان { الصالحات } أي هذا الجنس ، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات ....{ وتواصوا } أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال : { بالحق } أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته ....{ وتواصوا } لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ { بالصبر } أي الناشئ عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل ....
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إلا من اتصف بأربع صفات : الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به . والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة . [...] فبالأمرين الأولين ، يكمل الإنسان نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح [ العظيم ] . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خُسر على أن سبب كون بقية الإِنسان في خسر هو عدم الإِيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة . وعُلم من الموصول أن الإِيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإِنسان . وعُطف على عَمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات ، عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه ، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته ، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق ، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وتعبير { الصالحات } عام مطلق يتضمن كل نوع من أنواع الخير والبر والمعروف تعبديا كان أم غير تعبدي ،....وبكلمة ثانية بكل ما فيه جماع الخير وسعادة الدارين ...ونرى بهذه المناسبة أن نشير إلى ما تكرر كثيراً في القرآن من التنويه بالصبر..... وواضح من هذه الآيات ومن الآيات الكثيرة الأخرى التي وردت في سور عديدة : أن هدفها هو بث روح الجلد ورباطة الجأش وضبط النفس والسكينة والتضحية في نفس المسلم ، مما يضمن له الكرامة والعزة والنجاح ، ويجنبه الطيش والهلع والجزع والاضطراب والقلق في الأزمات والأخطار . والصبر بعد يتجسد في أخلاق كثيرة ....
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الإيمان والعمل الصالح أساس النجاح { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } وهذان هما العنصران اللذان يمثلان القيمتين الكبيرتين في الجانب الوجداني للإنسان في دائرة فكره وشعوره ، وفي الجانب الحركيّ في دائرة حركته في الخطّ العملي من حياته .....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نعم ، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري ، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة . { إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } بعبارة أخرى : ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير ، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال ، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن ، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود ؛ بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات ؛ بل مئات ؛ بل آلاف المرات . كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت . ....