71- وإن يُريدوا خيانتك بما يُظهر بعضهم من الميل إلى الإسلام مع انطواء صدروهم على قصد مخادعتك ، فلا تبتئس ، فسيمكنك اللَّه منهم ، كما خانوا اللَّه من قبل باتخاذ الأنداد والشركاء والكفر بنعمته ، فأمكن منهم إذ نصرك عليهم في بدر ، مع التفاوت بين قوتك في القلة ، وقوتهم في الكثرة ، واللَّه قوى غالب متصرف بحكمته ، فأمكن من نصره عباده المؤمنين .
{ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ْ } في السعي لحربك ومنابذتك ، { فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ْ } فليحذروا خيانتك ، فإنه تعالى قادر عليهم وهم تحت قبضته ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } أي : عليم بكل شيء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة الجميلة ، وأن تكفل{[358]} بكفايتكم شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة .
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم ، يحذرهم خيانة الرسول [ ص ] كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير :
( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ، والله عليم حكيم ) . .
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره ، ولم يفردوه سبحانه بالربوبية ، وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده . فإن أرادوا خيانة رسوله [ ص ] وهم أسرى في يديه ، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر ، ومكنت منهم رسول الله وأولياءه . . والله ( عليم ) بسرائرهم( حكيم ) في إيقاع العقاب بهم :
قال القرطبي في التفسير ، قال ابن العربي : لما أسر من أسر من المشركين ، تكلم قوم منهم بالإسلام ، ولم يمضوا فيه عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين - قال علماؤنا : إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً . إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها ، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله [ ص ] الحقيقة فقال : ( وإن يريدوا خيانتك ) . أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً ( فقد خانوا الله من قبل )بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيراً ، ويعلمه الله ، فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً مما خرج عنهم : ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
وقوله تعالى : { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله } الآية ، قول أمر أن يقوله للأسرى ويورد معناه عليهم ، والمعنى إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرهم ذلك ولا يسكنوا إليه ، فإن الله بالمرصاد لهم الذي خانوا قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته وهو قد بينها لهم إدراكاً يحصلونها به فصار كعهد متقرر ، فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم ، وقوله { عليم حكيم } صفتان مناسبتان ، أي عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم به .
قال القاضي أبو محمد : وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر{[5486]} ، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن ، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عقيب بدر .
الضمير في { يريدوا } عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى . وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لنفسه ، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى ، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله . وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً } [ الأنفال : 69 ] ، فكل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم ، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال ، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى ، كما أمكنهم منهم في هذه المرة ، أي : أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك ، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ ، فلا يضرّكم ذلك ، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة . والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة .
فالعَهد ، الذي أعطَوْه ، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين . وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه .
وخيانتهم الله ، التي ذُكرت في الآية ، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة ، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به ، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم .
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله : { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } [ الأعراف : 189 ، 190 ] .
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة ، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا .
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : { فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } . وتقديره : فلا تضرّك خيانتهم ، أو لا تهتمّ بها ، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل .
قوله : { فأمكن منهم } سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب ، وبيان اشتقاقه ، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً ؛ بأن فسروا ( أمكنَ ) بأقدَرَ ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر . ووقع في « الأساس » « أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه » وفي « المصباح » « مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة » .
والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل ، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً ، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه .
و« من » التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم : لستُ منك ولستَ منّي . فقوله تعالى : { فأمكن منهم } حذف مفعوله لدلالة السياق عليه ، أي أمكنك منهم يوم بدر ، أي لم ينفلتوا منك .
والمعنى : أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم .
{ والله عليم حكيم } تذييل ، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن يريدوا خيانتك}، يعني الكفر بعد إسلامهم واستحيائك إياهم، {فقد خانوا الله من قبل}، يقول: فقد كفروا بالله من قبل هذا الذي نزل بهم ببدر، {فأمكن} الله {منهم} النبي عليه السلام، يقول: إن خانوا أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما فعلت بهم ببدر، {والله عليم} بخلقه، {حكيم} في أمره، حكيم أن يمكنه منهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم "خيانتك": أي الغدر بك والمكر والخداع، بإظهارهم لك بالقول خلاف ما في نفوسهم، "فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ "يقول: فقد خالفوا أمر الله ممن قبل وقعة بدر، وأمكن منهم ببدر المؤمنين. "والله عَلِيمٌ" بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم، "حَكِيمٌ" في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخيانة هاهنا: نقض الطاعة لله ورسوله التي شهدت بها الدلالة. وقوله "والله عليم حكيم "معناه عالم بما تقولونه وما في نفوسكم وبجميع الاشياء "حكيم" فيما يفعله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد: إنْ عادوا إلى قتالك بعدما مَنَنْتَ عليهم بالإطلاق وخانوا عَهْدَكَ، فالخيانة لهم دأب وطريقة، ثم إنَّا نُمَكِّنُكَ منهم ثانياً كما أمْكَنَّاكَ من أسْرهم أولاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله} الآية، قول أمر أن يقوله للأسرى ويورد معناه عليهم، والمعنى إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرهم ذلك ولا يسكنوا إليه، فإن الله بالمرصاد لهم الذي خانوا قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته وهو قد بينها لهم إدراكاً يحصلونها به فصار كعهد متقرر، فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم، وقوله {عليم حكيم} صفتان مناسبتان، أي عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم به.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} أي: فيما أظهروا لك من الأقوال، {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل بدر بالكفر به، {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي: بالإسار يوم بدر، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بما يفعله، حكيم فيه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فقد خانوا الله من قبل} باتخاذ الأنداد والشركاء، وبعد ذلك من الكفر بنعمه ثم برسوله ويؤخذ من الآيتين ما يجب على المؤمنين من ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة خيانتهم إذا ثبتوا على الكفر والطغيان، وعادوا إلى البغي والعدوان، وفيه بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين، ما داموا قوامين بأسباب النصر المادية والمعنوية، العلمية والعملية التي تقدم بيانها في هذه السورة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم، يحذرهم خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير:
(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم، والله عليم حكيم)..
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره، ولم يفردوه سبحانه بالربوبية، وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده. فإن أرادوا خيانة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أسرى في يديه، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر، ومكنت منهم رسول الله وأولياءه.. والله (عليم) بسرائرهم (حكيم) في إيقاع العقاب بهم:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وخيانتهم الله، التي ذُكرت في الآية، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} [الأعراف: 172] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم.
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله: {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما} [الأعراف: 189، 190].
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا.
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله: {فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم}. وتقديره: فلا تضرّك خيانتهم، أو لا تهتمّ بها، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل.
قوله: {فأمكن منهم} سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب، وبيان اشتقاقه، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً؛ بأن فسروا (أمكنَ) بأقدَرَ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر. ووقع في « الأساس» « أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه» وفي « المصباح» « مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة».
والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه.
و« من» التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم: لستُ منك ولستَ منّي. فقوله تعالى: {فأمكن منهم} حذف مفعوله لدلالة السياق عليه، أي أمكنك منهم يوم بدر، أي لم ينفلتوا منك.
والمعنى: أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم.
{والله عليم حكيم} تذييل، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإِسلام ليسيء إِلى الإِسلام ويخون النّبي وينتقم من المسلمين، فإنّ الآية التالية تنذر النّبي والمسلمين وتنذر أُولئك من الخيانة فتقول: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل).
وأي خيانة أعظم من عدم الاستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل، والشرك بالله وعبادة الأصنام بدلا من الإِيمان بالله وتوحيده؟ ثمّ إنّ عليهم أن لا ينسوا نصرة الله لك (فأمكن منهم).
وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يُفلحوا وسوف ينالون الخزي والخسران والهزيمة مرّة أُخرى. لأنّ الله مطلع على نيّاتهم، وجميع تعاليم الإِسلام في شأن الأسرى وفق حكمته (والله عليم حكيم)...