{ 104 ْ } { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ْ }
أي : أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه { يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } التائبين من أي ذنب كان ، بل يفرح تعالى بتوبة عبده ، إذا تاب أعظم فرح يقدر .
{ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } منهم أي : يقبلها ، ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه ، حتى تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم ، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك .
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي : كثير التوبة على التائبين ، فمن تاب إليه تاب عليه ، ولو تكررت منه [ المعصية ] {[384]} مرارا . ولا يمل اللّه من التوبة على عباده ، حتى يملوا هم ، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه ، وموالاتهم عدوهم .
{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء ، وكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بآياته ، ويتبعون رسوله .
وتقريراً لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية :
( ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وأن اللّه هو التواب الرحيم ? ) .
وهو استفهام تقريري يفيد : فليعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة ؛ واللّه هو يأخذ الصدقة ، واللّه هو يتوب ويرحم عباده . . وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه . . " وأن نبي اللّه حين أبي أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه ؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق اللّه عنهم حين أذن له في ذلك ، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - [ ص ] - وأن ذلك إلى اللّه تعالى ذكره دون محمد . وان محمداً إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر اللّه " . . كما يقول ابن جرير . .
قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا » على ذكر الغائب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا » على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا » ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق ، والضمير في { يعلموا } قال ابن زيد : يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ، وذلك أنهم لما ِتيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء ؟ فنزلت هذه الآية ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يعلموا } يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم ، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك ، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل ، ذلك أن يكون قبوله رسوله قبولاً منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك ، وقوله { ويأخذ الصدقات } معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه .
وقال الزجّاج : معناه ويقبل الصدقات ، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه : «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل »{[5878]} ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة : «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل »{[5879]} ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد ، فقد يحتمل أن تخرج لفظة { ويأخذ } على هذا ، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة ، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعاً ، وهذه نازلة هذه الآية ، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر ، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم ، واختلف هل تقبل توبة الجميع ، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله ، وأما إذا فرضنا تائباً غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا ، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون - وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه{[5880]} - يقطع على الله بقبول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه ، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين ، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء ، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه ، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم .
قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القول ، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب ، وقوله تعالى { عن عباده } هي بمعنى «من » وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه ، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره{[5881]} ، وقوله تعالى { ألم يعلموا } تقرير ، والمعنى حق لهم أن يعلموا .
إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله : { إن صلواتك سكن لهم } [ التوبة : 103 ] مشيراً إلى ذلك ، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله : { اعترفوا بذنوبهم } [ التوبة : 102 ] وقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] كانت جملة : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة } استينافاً بيانياً ناشئاً عن التعليل بقوله : { إن صلواتك سكن لهم } [ التوبة : 103 ] ، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا ، فيكون الاستفهام تقريراً مشوباً بتعجيبٍ من ترددهم في قبول توبتهم . والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه ، ويكون ضمير { يعلموا } عائداً إلى الذين اعترفوا بذنوبهم .
وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله : { إن صلواتك سكن لهم } [ التوبة : 103 ] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله : { والله سميع عليم } [ التوبة : 103 ] ، وكانت جملة : { ألم يعلموا } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها ، وكان ضمير { ألم يعلموا } عائداً إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة ، وكان الاستفهام إنكارياً .
ونُزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة ، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقةً ، وكان الكلام أيضاً مسوقاً للتحْضيض .
وقوله : { وأن الله هو التواب الرحيم } عطف على { أن الله هو يقبل التوبة } ، تنبيهاً على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العُلى أنه التواب الرحيم ، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين ، الرحيم لعباده ، ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب { التواب } ب { الرحيم } في غاية المناسبة .